الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:
بعد سنواتٍ طويلة من الأسر، ترحلُ إلى الوطن، وتعود إلى الحنين والشوق، يتسامى الجرح زهرة رمان، ويتحوّل الدم زئيراً أبديّاً مستحيل الخفوت، وكريّات دمكَ دبوسٌ ينغرس بين العقل والإدراك..
والرحيل رحيلاً اختياريّاً، حيّاً أو شوقاً.. وأمامك بوابتان: “البوابة الأولى جدثٌ يمتدّ على مساحة الجلد، والأخرى بالكادِ تراها”.
تحاول الخروج، تجد المكان ضيّقاً.. تحاول الهرب، وتدرك أنها هجرتك إلى الأرض.. ترى البوابتين “الموت والعشق، والموت صبابة العاشق فيك”.
في المعتقل تتضاءل.. يتضاءل كبرياؤك، توقده، يعود ويتضاءل، فتوقدهُ من جديد.. تتمنى ألا تكون ابناً لجبل الزيتون، هؤلاء لم يرفعوا الرايات البيض، وأنت كيف ترفع يديك؟!.. في الأسر موتٌ، وجوف الأرضِ أرحم، وأكثر رأفة.. أكثرُ شرفاً، وأكثر حياة..
هل يقتلك الخذلان؟.. هل ضاع سلاحك؟.. أين تركته؟.. أنت في البوابة وحدك، تحسّ جوارحك معطّلة أو معطوبة، ويتداخل فيها المستحيل، تطارد منارة، ومن ثمّ تمسك بشجاعة، فيا ترى: هل تمسك طرفي المستحيل؟..
طلبتَ الموت معادلاً للانتماء.. للوجود على أرضك.. لامتلاكِ حقّك.. نزفتَ قروناً، والدماء عاصفة تغرق المعتقل بمفرداتها..
في المعتقل، اصمت واصبر.. لا كلمة تُجديك أو تخفّف لهيب روحك.. لا نشيد ولا لحن يغوص في أعماقك، ولحظة تعانق الهواء في ساحاتٍ مغلقة، تطير أصابعك من خلفك، شِباكاً تصطاد حجراً، تخبّئه في فمك، ليتحوّل وفي خلسةٍ من أعينِ المترقّبين، إلى يراعٍ يخطّ على بلاطِ الغرفة: أسير أبجديّة الله..
تشتهي لو تتحوّل أصابعك إلى قطعة من الطباشير، أو أن يتحوّل جسدك إلى رقعة، يُكتب عليها أسير.
لِم لا يتركونَ أوراقنا ودفاترنا وأمنياتنا وأغانينا، وكلمات الله فينا، تحبو في الزنزانة مثلما نحبو، أم أنهم يريدون كتلاً من لحمٍ وعظمٍ وجماجم؟!!.
تتجمّد السنوات ويتشنّج الإبهام والشاهد، نرسم ظلّ الله ولا نعيد ترتيب أرواحنا إلا عندما نقصّ حواف الجريدة.. نسرق قلماً ونسطّر أولى الكلمات مثل بقية الناس، والفارق أن حافة الجريدة والقلم في حياتنا، أكثر أهمية من دفاتر البشرية وأقلامها…
تفرّ الأرض من تحت أقدامنا سنين.. وتعود أقدامنا، نزرعها لنعيد زماننا، يتوحّد مع زمن الكون، ونحصل على قلمٍ ودفتر بثمنٍ زهيد، يساوي خمسة كيلوغرامات من كتفِ كلّ منا..
يا ترى: هل قال “شكسبير” الحقيقة؟!.. إمّا أن تاجر “عسقلان” أشدّ إيغالاً في دمنا، أو أن العرب يدفعون أكثر، وهم بالفطرةِ كرماء؟…
نلوبُ في الليل.. نقرأ التاريخ من ذاكرةِ متعلّم، ونشعل عيوننا قناديل تحدّق في الظلام… نطاردُ نسمة الصباح، نحن المعلّقون بذواتنا، نمسك تلابيب جراحنا، قطرات دمنا تشتعل، وجراحنا تسير خلف أمنية الشفاء، لكنه لا يصل..
نغادر أجسادنا المنبوذة في مثلّثِ الغرفة، نسري في الليل، نبحثُ عن نجمةٍ مرّت يوماً على نخلة، ويمرّ القمر، لكنه ينكرنا.. حتى النهار لا يأتي.
هي حكاية كلّ الأرواح والأجساد المتناثرة خلف القضبان.. هي موسيقا الأنين الصامت في الزنازين.. هي رياح الوطن المكبّلة في فلسطين.. هي قصة كلّ المناضلين..
هي أيضاً، حكاية الأسير المحرّر “ابراهيم سلامة” الذي رشرش قلبه قمحاً أراد لسنابله أن تنمو في كلّ الظروف، والذي زرعَ على مدى مساحة البعد التي لم تُنسيه الرفاق، رياحين الصبر وورود دمشقيّة، لا تذبل مهما تعاقبت عليها رياح وأعاصير الفصول.
“أبو يعرب” الذي أبى أن يرحل، قبل أن يجهر بالمستبطن والمتواري والخفي، داخل أمكنة أعدّت للموتِ البطيء!!.. داخل السجن الإسرائيلي الذي دخله، كأوّل فدائيّ عبر نهر الأردن المقدس، باتّجاه البلاد العزيزة فلسطين، في عملية فدائية نادرة في جرأتها، وخطّتها، ومفاعيلها!..
دخله وكان لايزال في طراوة شبابه، ولم يخرج منه إلا وقد اشتعل الرأس شيباً، مثلما الإبداع شعراً.. كتبه بدماء جراحه، وبزئيرِ كلماتهِ الأشبه بزئيرِ “سفرٍ للريح”:
“يا مخيّم/ أين ترحل؟!!. الليل يفتح نوافذ الطرقات/أين ترحل؟!..
تلمّستُ طريق الموت/ أطلقتُ شياطين الرذيلة/ تمسّكت بأظافري/ لعقتُ دمي/ رجوتُ ثناياك تمسك بنا/ قذفتَنا/ وتطولُ بنا الدروب/ وبعضنا يموت/ والقليلُ يؤوب/.. طرَّزناكَ من أشعة البدر/ وهجاً من عيوننا/ تسامى في حناياك/ كلّ ما فيك لنا/ أترحل قبل أن يأتي وطن؟!../
أين ترحل؟.. زُرعتَ فوق أجسادٍ واراها ترابٌ/ بدمنا جبلناه/ يمشّطه آلاف من ناموا/ في كلّ صباحِ ينهضون/ يجولون في الطرقات/ يتفقّدون أشياءهم/ وينامون/ …أين ترحل/ ومقابرنا تتوالد؟/ أترحلُ قبل أن يأتي وطن؟..
أمّي أوصتني بك على عتبة الدار/ وهي تسرّح في المساء/ غباراً حملته الريح/ وعينها تنزّ وجعاً على غرباءٍ/ ناموا تحت التراب/.. أوصتكَ/ أن تغرس أطرافكَ في الثرى/ أن تحرس دموع الذين فقدوا/ كلّ شيءٍ إلا أنت/ قالت جارةٌ لأمي/: أعادوا ابني مزقةً لكفن/ وأنت تغادر/ ونحن للريحِ عراة…
أين ترحل/ وفي عيوننا قهر؟/ .. كلُ حجرٍ فيك شيدناه فوق شهيد/ والدم يغسل الطرقات/ ووجع الحجارة يتساقط في قلوبنا/ ونشدّ بأسناننا حبالَ المستحيل/ وفي كلّ مساءٍ يقف الشهداء/ يتفقّدون دمهم/ يمسّدون شعرك/ قال أحدهم: لن نغادر/ وسنهدّ بالمعاول/ كلّ حجر يميل قبل أن يهاجر/ زرعناك وطناً/ توالدنا/ سندكّ حجارة الجدران/ ونعيد ترتيب أرواحنا/ ودمنا لك خمراً/.. ولن ترحل/.. ولن تغادر”.
نعم.. لقد كتبَ “سلامة” قصائد لم يرحل فيها المخيم منه، مثلما لم ترحل ذكرياته، وكلماتي التي كتبته:
“عندما سمعنا همس الملائكة/ مع أصيلِ الرحيل/ كتبنا سويّة قصيدتنا الأخيرة/.. كانت المدنُ موصدة/ ومفاتيحُ الضوءِ ضائعة/ بين ألحانِ الفقدِ/ القادم/ .. غافَلَتني/.. لتفترش دمكَ، وتصلّي/ كان سجوداً واحداً/ ربّما يكفي للمغفرة..!!”..
نَم قرير العين يا غالي، كما كلّ الشهداءِ وأسرانا..
نَم، لقد خرج الله من خثرة دم، شاختْ وأصبحت مدينة، غاضبة، كطهرِ نضالكم، يوم كنتم تتسللون إلى فلسطين، من سورية الحبيبة، لتقضّوا طمأنينة المحتل، برسالاتٍ عظيمة، تؤكد له:
“إنّا باقون رماحاً وقنابل موقوتة، في وجهك أيّها المحتل، وفي كلّ مكان وزمان”.
التاريخ: الثلاثاء20-7-2021
رقم العدد :1055