الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
منذ عقودٍ من السنين، حين كنّا في أولى خطواتنا الجادّة في دروب الأدب، وحين لم يكن التنقّل بين القرية والمدينة يسيراً؛ ولا سيّما في أوقاتِ النشاطات المسائيّة، كنّا لا نعدم الوسيلة للوصول إلى المركز الثقافيّ؛ حيث يقام النشاط الثقافيّ المسائيّ الدوريّ؛ بل كنّا لا نفكّر في متطلّبات الأمر وتبعاته، ولا نتردّد في قصدنا؛ على الرغم من ضيقِ ذات اليد، والطقس الذي لا يمازح أحياناً، ولا يرحم. وكانت غبطتنا بالوصول والحضور، تزداد حين نرى السعادة على ملامح المسؤول الثقافيّ، عندما يرانا مقبلين، وكثيراً ما يكون واقفاً على المدخل الخارجيّ للمركز، يتوسّل جمهوراً، يبيّض وجهه، أمام الضيف القادم من مكانٍ بعيدٍ أو قريب؛ معزّزاً مكرّماً ممتنّاً! وغالباً ما يبدأ النشاط بتقديم الأعذار بوجهٍ محمرّ وملامح غاصّة؛ لأنّ الطقس مؤثّر، أو أنّ الامتحانات على الأبواب، أو هناك وفاة في هذه الحارة أو تلك!.. وفي كلّ حال -يتابع المسؤول الثقافيّ- فهذه نخبة من الجمهور؛ «والكرام قليل»! ولم نكن نلاحظ عتباً أو انزعاجاً، من قِبل الشاعر أو القاصّ أو المحاضر المعروف في الوسط الثقافيّ، الذي اعتاد -ربّما- على جمهورٍ كهذا، وإن كانت الكلمة: جمهور، تشي بالكثرة غير المتوافرة، إلّا رفقة مسؤولين؛ حيث يحضر الناس بحضور المسؤول، ويغادرون بمغادرته؛ وإن كان هذا في افتتاح مهرجان ثقافيّ، ولا يبقى بعد انتهاء الطقوس الرسميّة، وابتداء الفعاليّات المقرّرة، إلّا من جاء من خاطره الأدبيّ، ولإشباع توقه الثقافيّ!..
لقد تحسّنت أحوال الناس عامّة بعدئذٍ لسنوات؛ ومنها أمور الانتقال، قبل أن تعود إلى السوء المضاعف، في العشريّة الأخيرة؛ بسبب الحرب العدوانيّة على بلدنا، ولم تتحسّن الأحوال الثقافيّة بشكلٍ عام وخاصّ قبل الحرب، وفي أثنائها؛ وما يزال «الكرام قليلا»! سوى في بعض الحالات، التي يقدّر لأحد المبادرين المهجوسين بالثقافة أن يكلّف مهمّة ثقافيّة؛ فكانت فعاليّة النشاط تتحسّن مضموناً وحضوراً وآليّات إعلان وإعلام وأداء.. وهذا لا يتعدّد، ولا يتكرّر، في العادة، ولا يدوم طويلاً، وتعود الأمور إلى مجراها «الطبيعيّ»؛ بل غير الطبيعيّ والمأمول والمرتجى»..
وما زلت أذكر مقدار الخيبة، حين قصدت موئلاً ثقافيّاً؛ للاستماع إلى جديد أديبٍ له سمعته؛ لكنّه قرأ ما هو منشور، ومُتابَع من قبل متابعي الدوريّات والصفحات الثقافيّة العامرة؛ ونحن منهم؛ صحيح أنّني حضرت ذلك الأديب يقرأ بنفسه ما كان نشره، وهذه فرصة طيّبة؛ لكنّها لا تستحقّ وحدها العناء؛ وخاصّة لمن يرغب في الجديد غير المقروء وغير المسموع سابقاً؛ ومن الصعب الحصول عليه إلّا من لدن صاحبه، الذي لا نلتقيه كثيراً ولا قليلاً. ثمّ تتالت الحالات المخيّبة، التي تزعج المتلقّي الشغوف، من قراءة في قصاصة جريدة، أو من دوريّة، أو من كتاب منشور للكاتب..
لقد كنت أحسّ بعدم احترام الأديب للحضور، وعدم ثقته بمتابعتهم، أو عدم وجود جديد له غير منشور، وآليتُ على نفسي ألّا أقوم بمثل هذا الفعل، حين صرت أشارك في النشاطات، وأقرأ فيها نصوصي، وما زلت وفيّاً لهذا العهد تماماً؛ فلا أقرأ ما هو منشور ورقيّاً أو فضائيّاً، ولا أقدّم ما قدّمته في مكان قريب، وجمهور قد يتكرّر حضوره؛ فيما ازدادت أحوال آخرين إمعاناً في عدم الاهتمام وعدم الاحترام؛ وقد زادت المطبوعات والمنشورات، وصارت ميسّرة أكثر، وصار من الذين يقفون على المنابر، أو في المنافذ الإعلاميّة الأخرى، من يستصعب اصطحاب الورق، وقليلون من يستظهرون كتاباتهم عن ظهر قلب؛ ولست منهم؛ بل قد يلجأ هذا القوّال إلى مطبوع أيضاً، أو- وهذه مشاهد مستجدّة، تستهوي الشباب ومدّعي الثقافة- يقرأ من الجهاز الخلويّ النفيس الذي يقتنيه، ويبدأ بالبحث عن النصّ عبره، وتمرير الصفحات الإلكترونيّة الزاخرة، بلا صوت ولا حرارة، ولا مرأى منّا لِما كنّا نتابعه في النشاطات الحميميّة القديمة! لماذا لم يعد الورق يليق؛ سواء أكان بخطّ اليد ونبض القلب ودفء الملمس، أو منضّداً بخط مطبوع، أصمّ وبارداً وبعيداً؛ على الرغم من حرارة العاطفة المكتوبة، أو المبثوثة عبر الكلمات والصوت والأداء، الذي قد يكون مناسباً للنصّ، لائقاً بالمنبر، مقنعاً للحضور، وقد لا يكون! لقد أصبح الورق عسير التأمين حتّى على المؤسّسات الثقافيّة الكبيرة المتخصّصة، فتتأخر في الطباعة كثيراً، وقد يتحوّل الكتاب إلى كائن إلكترونيّ، ويكتفى بذلك! لا شكّ في أنّ هذا مؤسٍ، ومحزن، أن تفتقد أو تكاد حضور الورق الأليف، الذي يُقرأ، أو يصوّر، أو يسحب.. مصاحباً للقارئ المنبريّ؛ حتّى إن كان يُتقرّى عدده في يده من قبل بعض الحضور؛ حزناً على قرب انتهائه، أو تلهّفاً للختام!
لا شكّ في أنّ للنشاط الثقافي طقوسه الماتعة، التي لا يصحّ أن نخلّ بفصولها؛ ابتداء من القائمين على النشاط، واستقبالهم للمشاركين فيه، وللجمهور؛ ومروراً بمن على المنصّة، وحيداً أو بصحبة آخرين، أو من يصعدون إلى المنبر تباعاً؛ وليس انتهاء بالجمهور المتابع، غير الملتهي بالحديث الجانبيّ، أو بالانشغال بأجهزة الخلويّ، ومتابعة الأحداث والرسائل والتعليقات، التي لا تفوّت، ولا بدّ من الردّ عليها في الحال، أو الخروج والدخول مرّات لحديث هاتفيّ طارئ! أو الخروج بلا عودة؛ مع الحضور المشتّت بالإعلام المشغول أبداً، إذا حضر، والحريص على دعوة المشاركين، وإجراء اللقاءات معهم في أثناء إقامة النشاط، وفي مكان مسموع؛ متقاطعاً مع حديث المشاركين، ومشوّشاً على الجمهور! ومع ذلك فهو صاحب المنّة في حضوره والـ»تغطية» المشكورة، وعلى الجميع الانصياع له، ومن يتردّد أو يتلكّأ أو يرفض، سيتعرّض للتجاهل والتعمية طويلاً!..
لا شكّ في أنّ أيّ نشاط ثقافيّ، يفترض أن تكون نهايته مسكاً؛ بالحوارِ الهادئ المفيد الرشيق؛ من دون التعالم والمغالطة والمقارعة الفجّة، ومن دون الحديث العائم الغائم، والكلام من أجل الكلام؛ ومن قال إنّ على الجميع، أن يتحدّثوا، وأن يصلوا إلى رأيٍ واحد، وتصوّر واحد، ومفهوم واحد لِما يطرح؟! يمكن لمن لديه ما يفيد، أن يقدّم رأيه باقتضابٍ واحترام للوقت والمكان وللآراء الأخرى، حتّى إن كانت مخالفة!
إنّ أهمّيّة النشاط لا بعدد الحضور؛ على أهمّيّة كثرة المتلقّين، ولا بالمناسبة، ولا بسمعة مقدّمي النشاط، أو المشاركين فيه؛ على أهمّيّتها، ولا بردود الأفعال المباشرة تأييداً أو رفضاً، ولا بكثرة الكلام فيه؛ بل الأهمّ ما يترك لدى من كان حاضراً من صدى؛ قد يكون تساؤلاً يسعى بعده إلى البحث عن الإجابة عنه، أو موضوعاً تمّ لفت الانتباه إليه، أو غنى من ثقافة وأفكار ومعلومات وتجربة وحياة…
إنّ العناية بالنشاطات، تحضيراً وتنظيماً وتنفيذاً وتنوّعاً وتجديداً في الأسماء والموضوعات، أمرٌ بالغ الأهمّيّة والحيويّة؛ في سبيل ثقافة حقيقيّة جادّة ناجزة مأمولة.
*شاعرٌ وأديب وقاص
التاريخ: الثلاثاء20-7-2021
رقم العدد :1055