اقتصاد البقاء.. هكذا يعيد السوريون بناء حياتهم بوسائلهم الخاصة

الثورة – تحقيق هلال عون:

في حي المزة بدمشق، تنهمك “أم أحمد”، التي تبلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً، بخياطة أغطية وملابس منزلية داخل غرفة صغيرة لا تتجاوز ستة أمتار مربعة، تضيئها ثلاث ليدّات تعمل على بطارية صغيرة. أم أحمد لم تكن تعمل في الخياطة، لكنها وجدت في الإبرة والخيط وسيلة لإنقاذ أسرتها بعد أن توفي زوجها، الحلاق أبو أحمد، قبل ثلاث سنوات. تقول: لا يجوز أن ننتظر المساعدات مادمنا نمتلك الصحة، ولايجب أن ننتظر الوظائف، نحن نصنعها بأنفسنا، كل بيت صار ورشة صغيرة” الواقع يقول إن آلاف السوريين وجدوا أنفسهم أمام واقع يفرض عليهم العمل خارج الأطر التقليدية، فخلقوا ما بات يُعرف بـ “اقتصاد البقاء” – اقتصاد موازٍ يقوم على المبادرات الفردية والتضامن المجتمعي، في ظل انكماش الاقتصاد الرسمي وتراجع قدرة الدولة على استيعاب اليد العاملة.

70 بالمئة في الأعمال الحرّة

بحسب تقديرات خبراء اقتصاديين محليين، فإن نحو 70 بالمئة من القوى العاملة في سوريا تعمل اليوم ضمن الاقتصاد غير الرسمي، أي من دون تراخيص أو عقود عمل أو تغطية تأمينية. قبل عام 2011، كانت هذه النسبة لا تتجاوز 30 بالمئة، ما يعكس التحوّل الجذري الذي أصاب سوق العمل نتيجة الحرب الطويلة، والعقوبات الاقتصادية، وانهيار قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات العامة. هذا التحول لا يعكس مجرد انتقال مؤقت، بل إعادة تشكّل كاملة لآليات الكسب والعيش.

يقول “فادي”، موظف سابق، تحول إلى بائع قهوة متنقلة في شوارع حيّ المزة الدمشقي: كنت أتقاضى ما يعادل 150 دولاراً.. اليوم أبيع القهوة وأكسب أكثر، لكن بلا ضمان أو استقرار.

إلى اقتصاد المجتمع

مع تراجع دور الدولة كمشغّل رئيسي وانكماش القطاعات العامة، برزت شبكات اقتصادية بديلة يقودها الأفراد والمجتمع المحلي. في الأحياء الشعبية، تتشارك العائلات المواد الأساسية، ويتناوب الجيران على شراء أسطوانات الغاز، بينما تنشط على وسائل التواصل مجموعات تبيع منتجات منزلية أو تقدم خدمات متبادلة. تقول “هناء”، وهي معلمة سابقة في حماة تدير اليوم مجموعة نسائية عبر “فيسبوك” لتبادل وبيع المأكولات المنزلية: نحن نساعد بعضنا، من تطبخ اليوم تبيع لجارتها، ومن لديها زبائن تشاركنا تجارتها، لا نملك رأس مال، لكننا نملك الثقة. أما سعاد، فهي صبية تخرجت من الجامعة قبل خمس سنوات، ووجدت في تسويق العسل والمربيات وزيت الزيتون، وكل أنواع المؤونة، عملاً مناسباً لها بعد أن طرقت أبواباً كثيرة بحثاً عن العمل دون جدوى، فأنشأت عدة صفحات على مواقع التواصل لترويج تجارتها، التي ترسلها بشركات النقل للراغبين إلى المحافظات السورية.

يرى الباحثون في هذه المبادرات نواة لاقتصاد اجتماعي تضامني، قائم على التعاون والتبادل بدل التنافس. ومع غياب الاستثمارات الكبرى، تحوّل رأس المال الاجتماعي – الثقة والتعاون – إلى مورد حقيقي للبقاء.

ضرورة أم خطر مستقبلي؟

يشير الخبير الاقتصادي د. سامر حسام الدين إلى أن “الاقتصاد غير الرسمي في سوريا لم يعد ظاهرة هامشية، بل أصبح ركيزة رئيسية لاستمرار الحياة اليومية”. ويضيف: “هذا القطاع مكّن مئات آلاف الأسر من الصمود، لكنه في الوقت نفسه يضعف قدرة الدولة على التحصيل الضريبي، ويحدّ من فاعلية السياسات العامة”. تقديرات مراكز أبحاث عربية تشير إلى أن حجم اقتصاد الظل في سوريا يتراوح بين 55 بالمئة و65 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من أعلى النسب في الشرق الأوسط. ورغم دوره في امتصاص البطالة وتوفير بدائل دخل، إلا أن اتساعه يكرّس حالة من الاقتصاد المزدوج، أحدهما رسمي ضعيف، والآخر شعبي غير منظم، ما يهدد التوازن الاجتماعي والمالي للدولة على المدى البعيد.

الاقتصاد الموازي

في الأسواق الشعبية، يمكن تتبّع خريطة الاقتصاد غير الرسمي بسهولة.

الباعة المتجولون، والورش المنزلية، وصفحات التواصل الاجتماعي التي تسوّق لمنتجات يدوية أو مأكولات منزلية – كلها حلقات ضمن منظومة اقتصادية ضخمة، لا تسجّلها الإحصاءات الرسمية، لكنها تحرك عجلة الحياة اليومية.
يقدّر باحثون أن قطاع الخدمات الصغيرة (صيانة، خياطة، طعام منزلي، نقل) يشكّل اليوم أكثر من نصف النشاط الاقتصادي الفعلي داخل المدن. كما أسهمت التطبيقات الرقمية ومنصات التواصل في خلق أسواق بديلة، حيث يجري البيع والشراء عبر الإنترنت، في ظلّ ضعف الثقة بالأسواق التقليدية.

أنماط تعاونية أفقية

لم يقتصر تأثير “اقتصاد البقاء” على الدخل فقط، بل أعاد تشكيل العلاقات الاجتماعية نفسها. فبدلاً من علاقات العمل الهرمية، ظهرت أنماط تعاونية أفقية – عائلات وجيران يشاركون الموارد والخدمات. في الوقت نفسه، نشأت طبقة جديدة من رواد الأعمال الصغار الذين بنوا مشاريعهم من منازلهم، وغالباً خارج أي إطار قانوني. لكن هذه الحيوية تخفي مخاطر اجتماعية؛ فغياب التنظيم يؤدي إلى هشاشة في فرص العمل، واستغلال العمال، خاصة النساء والأطفال. كما أن غياب التأمينات والضرائب يعني حرمان الدولة من موارد حيوية، ما يعوق قدرتها على تمويل الخدمات العامة وإعادة الإعمار.

هل يمكن تنظيم اقتصاد الظل؟

يرى خبراء أن الحلّ لا يكمن في محاربة الاقتصاد غير الرسمي، بل في دمجه تدريجياً ضمن المنظومة القانونية، عبر إجراءات مبسطة لتسجيل المشاريع الصغيرة، وتقديم حوافز ضريبية وتشريعية. يشير الخبير الإداري والاقتصادي د. عبد المعين مفتاح إلى أن تجارب دول مثل مصر والمغرب أثبتت أن سياسات الدمج التدريجي تساهم في تحويل النشاط غير الرسمي إلى رافعة للتنمية، بدل أن يبقى عبئاً على الاقتصاد الوطني. في الحالة السورية، قد يكون تنظيم هذا القطاع أحد المفاتيح القليلة الممكنة لمواجهة الأزمة، خاصة أن الدولة لم تعد قادرة وحدها على خلق فرص العمل أو تمويل الخدمات.

بين الظلّ والضوء

رغم قسوة الواقع، فإن “اقتصاد البقاء” في سوريا أثبت قدرة المجتمع على التكيّف والإبداع في مواجهة الانهيار. من خياطة أم أحمد ، إلى بائع القهوة سامر، إلى النساء اللواتي أنشأن شبكات دعم رقمية – كلها قصص تشكل وجهاً جديداً للاقتصاد السوري، اقتصاد بلا مكاتب، بلا تصاريح، لكنه مليء بالحياة. قد يعيش هذا الاقتصاد في الظلّ، لكنه، هو الذي يبقي الضوء مشتعلاً في بيوت السوريين.

أرقام وتقديرات 2024

– عدد السكان نحو 22 مليون نسمة (المكتب المركزي للإحصاء).
– معدل البطالة 50-55 بالمئة (تقديرات محلية ودولية).
– حجم الاقتصاد غير الرسمي 55-65 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي (مراكز أبحاث عربية). – متوسط الدخل الشهري 150-200 ألف ل.س أي 15 دولاراً (الصحف المحلية 2024) – نسبة الفقر أكثر من 90 بالمئة من السكان (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP).
-سعر صرف الدولار 14,000-15,000 ل.س السوق المحلية – نهاية 2024

آخر الأخبار
مسؤولون سابقون من النظام المخلوع على قائمة الاتهام في النمسا ريف إدلب يتنفس الأمل.. افتتاح المدارس يُعيد الحياة إلى المجتمع مصفاة حمص الجديدة ترسم ملامح تحول قطاع الطاقة في سوريا "دواجن طرطوس".. إنتاج متجدد نحو الاكتفاء الذاتي الخبرة تتفوق على الشهادة في سوق العمل تغير المناخ يهدد قمح سوريا.. هل تنقذ الزراعة المستدامة محصول الغاب؟ الشيباني يرفع العلم السوري في السفارة بـ لندن خلال زيارته للمملكة المتحدة باراك يكشف تفاصيل دقيقة عن اجتماع الرئيسين الشرع وترامب الرأي العام السوري يدخل رقمياً على خط المفاوضات مع "قسد"... 65 بالمئة يرحب بالحوار تحت سقف السيادة و... اقتصاد البقاء.. هكذا يعيد السوريون بناء حياتهم بوسائلهم الخاصة البطالة المقنّعة.. وجه خفيٌّ للفساد الإداري وتشويه للمؤشرات الاقتصادية تحديات تعترض طريق المنتجات السورية إلى الأسواق الخارجية الإسمنت السوري بين التحدي والفرص.. من تلبية الطلب إلى رافعة للتنمية بعد فتح واشنطن أبوابها.. لماذا على دمشق تفعيل القوة الناعمة؟ تعاون أردني – سوري يرسم ملامح شراكة اقتصادية جديدة تسجيل إصابات التهاب الكبد في بعض مدارس ريف درعا بدر عبد العاطي: مصر تدعم وحدة سوريا واستعادة دورها في الأمة العربية لبنان وسوريا تبحثان قضايا استثمارية خلال المنتدى "العربي للمالية" بينها سوريا.. بؤر الجوع تجتاح العالم وأربع منها في دول عربية سوريا تعزي تركيا في ضحايا تحطّم طائرة قرب الحدود الجورجية