الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
تصرّ الولايات المتحدة الأميركية على مواصلة حروبها الاقتصادية حول العالم كنتيجة لفشل سياستها العسكرية في فرض الهيمنة والتسلط وإملاء أجنداتها على الدول والشعوب التي تناهض طموحاتها الاستعمارية، رغم إدراكها أن هذه الحروب لن تحقق جدواها ولن تضمن لها الربح والنجاح وتعطيها فرصاً أفضل للسيطرة والتوسع، ففي معظم الدول التي عانت من الحصار الأميركي والعقوبات الجائرة نجمت سياسات داخلية سرعان ما تأقلمت مع الوضع الجديد، ووجدت نوافذ وبوابات لها لمواصلة السيادة الوطنية، ومتابعة نهجها المستقل رغم كل الصعوبات.
ولا شك بأن أصحاب القرار في البيت الأبيض يدركون أن سياستهم المتجددة في فرض العقوبات الاقتصادية ضد هذه الدولة أو تلك، لن تؤدي إلى إسقاطها، رغم المعاناة الصعبة التي قد تلحق بشعوبها جراء نقص الموارد المختلفة اللازمة لتطورها ونهضتها، لا بل إن دولاً عديدة تمكنت من تحويل الحصار إلى فرصة للنجاح، بحيث استطاعت في ظل الحصار الخانق من أن تسجل مؤشرات اقتصادية جيدة وتتقدم في العديد من المجالات نتيجة الاعتماد على الذات وإيقاظ روح التحدي والمواجهة دفاعاً عن سيادتها واستقلال قرارها الوطني، فالدول التي تناوئ السياسة الأميركية ليست جمهوريات موز تسقط أنظمتها وحكوماتها بسهولة وتخضع شعوبها ببساطة لمجرد الضغط عليها في أمور الغذاء والوقود وما شابه، لأن الكرامة الوطنية عند الشعوب الحرة لا يمكن المقايضة عليها بأي ثمن.
الفشل الذريع للعقوبات الأميركية في مرحلة من المراحل جرّ واشنطن لخوض حروب عسكرية مدمرة – كما جرى في العراق عام 2003- فكان غزو العراق كارثياً بالنسبة لأميركا وللعراق، ولعل الجميع يتذكر الأزمة والانهيار الاقتصادي الذي ضرب أميركا عام 2008 كجزء من نتائج حربها على العراق وأفغانستان التي كلفت تريليونات من الدولارات، إضافة إلى عشرات آلاف القتلى والجرحى والمختلين عقلياً، أي إن حروب أميركا العسكرية لم تكن أبداً بلا ثمن باهظ.
اليوم تستمر واشنطن في فرض عقوباتها الاقتصادية حول العالم كجزء من منطقها العدواني الاستعماري، فإضافة إلى كوريا الديمقراطية وكوبا وفنزويلا وبيلاروس وسورية واليمن ولبنان وإيران، ثمة عقوبات مفروضة على دول عظمى مثل الصين وروسيا، حتى الدول الأوروبية المتحالفة مع أميركا مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا وتركيا لم تسلم من العقوبات الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، أي إن هذا النهج العدواني الأميركي موجه ضد الجميع، و لا يستثني أحداً حتى ولو كان حليفاً، ما يشير إلى أزمة أخلاقية بنيوية في السياسة الأميركية لا يمكن معالجتها أو مواجهتها إلا بجهد وموقف دولي موحد وعبر الأمم المتحدة، بحيث تصبح العقوبات الأميركية معزولة وضعيفة التأثير على حياة الشعوب والأمم.
لقد مارست الولايات المتحدة ضد إيران منذ انتصار ثورتها عام 1979 أبشع أنواع الحصار والعقوبات الاقتصادية ولكن ذلك لم يغير سياسة إيران ولم يزعزع قناعاتها وقناعات شعبها بخصوص مواصلة نفس السياسة الشجاعة في الكثير من ملفات المنطقة والعالم، وخاصة الصراع العربي الصهيوني ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حيث كانت إيران وما زالت أبرز الداعمين للحقوق الفلسطينية ولحركات المقاومة العربية، وأبرز المناوئين للسياسة الأميركية والأطماع الأميركية في المنطقة، وما يجري اليوم من مفاوضات غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة في فيينا من أجل العودة إلى الاتفاق النووي يشكل انتصاراً جديداً للسياسة الإيرانية الثابتة والمبدئية المتمسكة بحقوق شعبها وأصدقائها وحلفائها.
ورغم فرضها عقوبات قاسية على سورية منذ ثمانينات القرن الماضي وصولاً إلى قانون “قيصر” السيئ الصيت، فإن سورية لم تغير مواقفها وسياستها المبدئية تجاه الكثير من القضايا العربية والدولية، بل باتت أكثر تمسكاً بهذه المواقف، وأكثر التزاماً بها رغم الحرب الهائلة التي شنت عليها من قبل الإرهاب وداعميه على مدى أكثر من عشر سنوات، وذلك لقناعتها بصحة وصوابية مواقفها من جهة، وفشل وعجز أميركا عن تنفيذ أجنداتها وتحقيق أطماعها من جهة أخرى، وثمة قناعة راسخة في الأوساط السورية بأن هذه العقوبات ستسقط في النهاية لأن ما عجزت أميركا عن فرضه بالقوة العسكرية والاحتلال ستعجز عن فرضه عبر العقوبات والحصار، ولدى السوريين كل الإمكانية لتحويل الحصار إلى فرصة للنهوض والتنمية والبناء رغم كل الصعوبات، وقد أثبتت السنوات الماضية قدرتهم على التحدي والصمود والمواجهة في أعتى وأصعب الظروف لأن كرامتهم الوطنية لا يمكن مقايضتها بحفنة من الدولارات أو المساعدات الإنسانية المسيسة.