“مملكةُ بازارِ الدساتير”.. وصناعة الجريمة الديمقراطيّة

 

الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:

“الكراهية الجديدة للديمقراطيّة، هي ما يشكّل موضوع هذا الكتاب، والناطقون باسمها يعيشون جميعاً في بلدان، لا تعلن فحسب أنها دولة ديمقراطيّة، بل أنها ديمقراطيّات بالمعنى الدقيق، ولا يطالب أيّ منهم بديمقراطيّة أكثر حقيقة، بل على النقيض.. ليست الديمقراطيّة بالنسبة إليهم شكلاً فاسداً للسيطرة، بل أزمة حضاريّة تؤثر في المجتمع وفي الدولة من خلاله، ومن هنا تأتي المراوغات، إذ إن النقّاد أنفسهم الذين يشجبون أميركا الديمقراطيّة، التي أتت منها كلّ شرور العالم، هم أوّل من يصفّق، حين تشرع بنشرِ ديمقراطيّتها، وبقوّة السلاح، في هذا العالم..”
بهذه الكلمات وغيرها، مما يشير إلى كارثة الحضارة الديمقراطيّة، قُدّم لكتاب “كراهية الديمقراطيّة”، لمؤلّفه الفيلسوف الفرنسي، المولود في الجزائر “جاك رانسيير” الذي أول ما تناول:
الديمقراطيّة غير منتصرة .. إنها فوضى مُجرمة
“الديمقراطية تنبعث من الشرق الأوسط”.. تحت هذا العنوان، احتفلت صحيفة تحمل شعار “الليبراليّة الاقتصاديّة”، بنجاح الانتخابات في العراق، وبالمظاهرات المناهضة لسورية في بيروت..”..
يذكر “رانسيير” هذا الخبر، ليعلّق عليه بالقول، إن التعليقات التي رافقت صخب هذا الثناء للديمقراطيّة، والتي لم تفعل أي شيءٍ، سوى تحديد طبيعتها وحدودها، هو ما دفعه لمواجهة من أثاروا هذا الشغب ساخراً:
“أوضِحوا لنا أولاً أنها انتصرت، رغم احتجاجات أولئك المثاليين، الذين تعدّ الديمقراطيّة بالنسبة لهم حكم الشعب لنفسه، ومن ثمّ لا يمكن جلبها من الخارج بقوّة السلاح”….
إذاً، هو يسخر من هذا الانتصار، وممن صفّق لديمقراطيّته، التي لم تكُ تعني، منح الشعب منافع الدولة الدستوريّة، والانتخابات والصحافة الحرّة، وإنما منحه الفوضى..
هذا ما رآه “رانسيير” في الديمقراطيّة التي وإن وجدت نفسها منتصرة، إلا أنها في حقيقة الأمر، ليست سوى مجرمة..
يقدّم هنا مثالاً، عن كون عمليات السلب والنهب والفوضى التي أعقبت الحرب في العراق، وإعلان أميركا بأنها منحت الحريّة والديمقراطيّة للعراقيين، هو قمّة الفوضى والشرور الديمقراطيّة…
من هنا، وكما رأى ووثّق، فإن الحجج التي تُطلقها الحملات العسكرية الهادفة إلى التوسّع العالميّ، تكشف عن المفارقة التي ينطوي عليها اليوم، الاستخدام السائد لهذه الكلمة، والذي سببه المبدأ الفوضويّ الذي عرفت الولايات المتحدة ودول غربيّة أخرى، عواقبه المتطرفة، والمفرطة في شرورها…
إنه الإفراط، الذي أشار إلى أنه قديم، قدم الديمقراطية التي تعني بحدّ ذاتها الكراهية، وبأنها كانت “شتيمة” اخترعها في بلاد الإغريق القديمة، من رأوا “في الحكم الشائن للدهماء، خراب كلّ نظامٍ مشروع، وتوجيه الطاقات التي تنشط في المشهد العاتم، نحو أهداف أخرى هي البحث عن الرفاهية الماديّة، وأشكال السعادة الخاصة، وغير ذلك مما ينتج عنه، عبث الموطنين بالصالح العام، ومضاعفة تطلعاتهم ومطالبهم وفوضاهم”.
شرورٌ.. تشرّع الجريمة الديمقراطيّة
هو فصلٌ آخر، من الفصول التي تتوالى في سردِ ما يدعو أكثر إلى “كراهية الديمقراطيّة”.. الفصل الذي قدّم فيه “رانسيير” ما يبرّر هذا الكره، وهو ما تحمله من الشرّ الذي يشرّع “الجريمة الديمقراطيّة” التي هي بالأصل، جريمة سياسية ترتكب ضد النظام البشري..
كلّ ذلك، جعل “رانسيير” يذكّر بأن هذه الأسباب، هي ما دفع “أفلاطون” الذي كان أوّل من قرأ الديمقراطيّة، للتهكّم بها والقول عنها:
“هي نظامٌ سياسيّ، ليس نظاماً بالمعنى المحدّد، ولا تملك دستوراً، لأنها تمتلك كلّ الدساتير.. إنها بازارٌ للدساتير.. زيُّ مهرّج، كما يروق للنّاس، الذين همّهم الأكبر، استهلاك المتع والحقوق.. هي ليست مجرّد سيادة الأفراد الذين يفعلون كلّ شيء على هواهم.. إنها على وجه الدقّة، قلب كلّ العلاقات التي تشكّل، بنية المجتمع البشري”..
يذكّر “رانسيير” بهذا الرأي الغاضب من الديمقراطيّة، ليعود ويسرد كلّ الشرور التي أعلنت لنا، ومنذ فجر الألفية الثالثة، انتصار الديمقراطيّة، أو كما سماها “مملكة البازار، وسلعهُ المرقّشة”..
هكذا سخر منها، من الديمقراطيّة التي استحقّت كلّ هذه الكراهية، إلى أن بات يتساءل بما يزيد من حنقه عليها، وتسخيفها بكلّ حالاتها، ومّذ اغريقيّتها وصولاً إلى تطور تقنياتها..
“ألا يجري تذكيرنا دون توقف، أننا نعيش في عصر التقنية والدول الحديثة، والمدن المتمدّدة، والسوق العالمية، مما ليس له علاقة على الإطلاق، بتلك المناطق الإغريقيّة، التي أطلقت فيها الديمقراطيّة؟!!..
إنه يشير هنا، إلى أن الديمقراطيّة هذه، لم تتطور إلا في شرورها وأدواتها، بل أن الوصف الذي استحقّته من “أفلاطون” وسواه من أعدائها في عصره، هو ذاته ما تستحقه اليوم، وكأنهم جميعاً رأوا أن صورتها ستكون في هذا العصر، هي الصورة ذاتها، لكنها متطورة في دقّتها، حيث بات “الإنسان الديمقراطي، في عصر الاستهلاك الجماهيري، والشبكة الكونيّة”.
إذاً، هي حسب رأيه، و”في المقام الأول، حكماً فوضويّاً، لا يقوم على أيّ أساسٍ، سوى غياب كلّ لقبٍ للحكم”..
فضيحة الديمقراطيّة… انتهاكُ الوجود والحدود
بعد تناول “روسبيير” للديمقراطيّة الشريرة والمجرمة، والتي لا أساس لها، ينتقل إلى فضيحة الديمقراطيّة، تلك التي تتمثّل بانعدام وجود مبدأ وحيد للجماعة، يضفي مشروعيّته، على شرور وديكتاتوريّة الحاكم، وهو ما يحيل المجتمع الديمقراطي، إلى “رسمٍ فانتازي” موجّه إلى دعم هذا المبدأ.
يقدم هنا شاهداً، وهو التاريخ الدامي للنضالات، من أجل الاصلاح الانتخابي، في بريطانيا العظمى.. ذلك أن هذا التاريخ جرى محوه، تحت غزلٍ رعوي، للتقاليد الانكليزية، للديمقراطيّة الليبرالية..
بعد تقديم هذا الشاهد، يعود ليشير إلى أن “مصالح الديمقراطيّة الخاصة، غير محدودة، ومحجوزة للخصخصة، وتلاعب المؤسّسات، واحتكار من يجعلونها تعمل، وبالتالي فالآباء المؤسّسون، أميركيون وغربيون، جعلوا من الحركة الديمقراطية فعل مزدوج لانتهاك الحدود والوجود، ونشر مساواة الإنسان العام، بما يتوافق مع خصخصة بلا حدود”…
يعني هذا بالنسبة إلى “روسبيير”، عدم نقاء السياسة، ودحض زعم الحكومات أنها تجسّد مبدأً واحداً وحيداً للحياة العامة، وبأنه لم يبق سوى أن تقنع بسذاجة لامحدودية الثروة، في حساب الشهيّة المُلتَهِمة للأفراد الديمقراطيين، وأن تجعل من هذه الديمقراطية المُلتهِمة، الكارثة الكبرى التي تجعل الإنسانيّة، تدمّر نفسها بسببها…
امبراطوريّة السوق.. وكراهيّة ذاتها الشيطانيّة
إنها الأسباب التي يختم “روسبيير” كتابه بها، منوّهاً إلى ضرورة عدم نسيان ما أورده منها، وجعل الشعوب تحيا في مجتمعاتٍ ودول، تُسمّي نفسها “ديمقراطيّات”، وفي الوقت الذي تهيمن عليها، كلّ شرور وأحقاد البشريّة.
ينوّه هنا، إلى أن هذه الشعوب، وإن نظرت إلى الديمقراطيّة بعيداً عن السياسة، فإنها ستبدو لها “صيغة تشير إلى نظام للسيطرة، لم يعد المرء يودّ أن يدعوه باسمه، واسم للذات الشيطانيّة، التي تأتي لتحلّ محلّ هذا الاسم المحذوف.. ذاتٌ مركّبة يكون فيها الفرد الذي يعاني من نظام السيطرة ذاك، والفرد الذي يشجبه، مندمجين ومن سماتهما المتراكبة، يرسم السجال الصورة الكمبيوتريّة للإنسان الديمقراطيّ: مستهلكٌ فنيٌّ أحمق، وتلفزيون الواقع، والضمان الاجتماعي، والحقّ في الاختلاف، والأوهام المناهضة للرأسماليّة، أو أوهام عالم بديل، ومعه يكون مع من يرفعون لواء الشجب، ما يحتاجونه: المذنبُ المُطلق لشرٍّ لا يمكن إصلاحه، ليس مُذنباً صغيراً، بل مذنب كبير، لا يسبّب فقط امبراطوريّة السوق التي يتكيّف معها، رافعوا لواء الشجب، بل خراب الحضارة والإنسانيّة..”.
كلّ ذلك وسواه، جعل “روسبيير” يؤكّد، أن الديمقراطيّة لا تكفّ عن إثارة الكراهيّة تجاهها، مع إصرارها على أن تقدّم نفسها دوماً، تحت قناع “الدعاية الضاحكة”، حيث الوجوه مختلفة ومنفّرة، لأولئك الذين يملكون العديد من الألقاب، التي يحكمون بها البشر..
“هذه الكراهية اليوم، أشدّ تجذّراً من أي وقتٍ مضى، لأن السلطة الاجتماعية للثروة، لا تتحمّل المزيد من القيود، على نموّها اللامحدود، وتفاقم هيمنة من تعوّدوا أن يكونوا أساتذة، حتى على الفكر الإنساني” ..
بهذا ينهي “روبسبيير” كتابه، الذي وإن انتهى، إلا أن كراهية الديمقراطيّة لا تنتهي، وسيبقى يقدم وسواه، المزيد من دروس السياسة والفلسفة، وكذلك الأسئلة التي تعرّي وجوه الغرب، وتُسقط أقنعته، ساخرة من الأمجاد التي لايزال يتغنى بها، والفضائل والديمقراطيّات التي يرى العالم بأكمله، كيف يفرضها بقوّة السلاح والاستبداد الشامل.

التاريخ: الثلاثاء5-10-2021

رقم العدد :1066

 

آخر الأخبار
تعاون اقتصادي وصحي بين غرفة دمشق والصيادلة السعودية: موقفنا من قيام الدولة الفلسطينية ثابت وليس محل تفاوض فيدان: الرئيسان الشرع وأردوغان ناقشا إعادة إعمار سوريا وأمن الحدود ومكافحة الإرهاب رئيس مجلس مدينة اللاذقية لـ"الثورة": ملفات مثقلة بالفساد والترهل.. وواقع خدمي سيىء "السكري القاتل الصامت" ندوة طبية في جمعية سلمية للمسنين استعداداً لموسم الري.. تنظيف قنوات الري في طرطوس مساع مستمرة للتطوير.. المهندس عكاش لـ"الثورة": ثلاث بوابات إلكترونية وعشرات الخدمات مع ازدياد حوادث السير.. الدفاع المدني يقدم إرشادات للسائقين صعوبات تواجه عمل محطة تعبئة الغاز في غرز بدرعا رجل أعمال يتبرع بتركيب منظومة طاقة شمسية لتربية درعا حتى الجوامع بدرعا لم تسلم من حقد عصابات الأسد الإجرامية المتقاعدون في القنيطرة يناشدون بصرف رواتبهم أجور النقل تثقل كاهل الأهالي بحلب.. ومناشدات بإعادة النظر بالتسعيرة مع بدء التوريدات.. انخفاض بأسعار المحروقات النقل: لا رسوم جمركية إضافية بعد جمركة السيارة على المعابر الحدودية البوصلة الصحيحة خلف أعمال تخريب واسعة.. الاحتلال يتوغل في "المعلقة" بالقنيطرة ووفد أممي يتفقد مبنى المحافظة الشرع في تركيا.. ما أبرز الملفات التي سيناقشها مع أردوغان؟ بزيادة 20%.. مدير الزراعة: قرض عيني لمزارعي القمح في إدلب تجربة يابانية برؤية سورية.. ورشة عمل لتعزيز الأداء الصناعي بمنهجية 5S