الملحق الثقافي:عيسى اسكندر علي:
… استمرَّ راكان بالمراقبة، وأخذ جاسم يغمغمُ بكلماتٍ تشبه الدعاء، بينما سليمان يتأمّل نافذة بيته، وقد حضرت إلى ذاكرته صورة والده المسجّى بين الشموع، ودخان البخور يغطي ملامحه، كأنه يطفو فوق سحابةٍ بيضاء، محلّقاً في اللامكان .
استطرد جاسم غمغمته، بسؤالٍ واضح لرفيقيه:
– ماذا سنفعل لو صعدوا إلى البناء؟..
أيقظ سؤاله هذا، الصديقين من شرودهما، وتبادلا النظرات الصامتة لثوانٍ طويلة، قبل أن يُخرج راكان من جيبه قطعة بسكويت، ويرمي بها لفأرٍ كان يطلُّ برأسه من خلف البراد، ثم أشعل سيجارة وقال بنبرةٍ حماسيّة.
– سأنزل إلى مدخل البناء وأكمن هناك، وما إن يدخلوا ويصيروا في المدخل، حتى أفتح عليهم النّار رشّاً فأقتلهم جميعاً.
-فكرة رائعة، قال سليمان.
– سأكون معك، قالها جاسم بحماسٍة.
نظر راكان من النافذة قاطباً حاجبيه لبرهةٍ، ثمّ تنهّد كمن ارتاح بعد طول عناءٍ، وقال بصوتٍ يخرج من أعماق قلبه:
-قد لا يمنحنا القدر فرصة أخرى لنكون أبطالاً.. صمتَ ثواني وهو يحدّق في الساحة التي تتوسّط الأبنية، ثمّ استطرد قائلاً:
إنهم يتجمّعون في السّاحة، مجموعتان خرجتا من البنائين المقابلين لنا، ومجموعة دخلت السّاحة لتوّها.
نهض الثلاثة، وبحركةٍ متناغمة بدؤوا بإطلاق رصاص القنص على أعدائهم. كان بريق السّعادة يشعُّ من عيونهم، كما بريق الأطفال وهم يلهون على أراجيح العيد، وكانوا يعلمون أن كلّ طلقة يطلقونها، تقرّبهم من موتهم المؤجّل، إلى حينٍ قريب.
سقط معظم المسوخ صرعى على أرض المدينة، وتعالى صوت البقيّة بالصراخ، لكن مجموعة كانت لا تزال في بناءٍ مقابلٍ لهم، اكتشفت وجود الأبطال الثلاثة، وبدأت بتوجيهِ نيران رشاشاتها المتوسطة باتّجاههم.
– فلنترك المكان.. لقد اكتشفوا مكاننا.. صرخ جاسم.
-ابقَ هنا ياجاسم، ولتشاغلهم متنقلاً بين شققِ وطوابق البناء، بينما أتمركز أنا على السّطح، ويكمن لهم راكان في مدخل البناء..
توقف سليمان عن الكلام، حين لاحظ أن نظرة راكان المحدّقة فيهما، وابتسامته المطمئنة، وكفّه الملامس لقلبه، ليس إلا استئذاناً بالرحيلِ، وبشرى لهم بالموتِ السعيد والشهادة.
كان راكان وهو ينزف دمه، على أثرِ رصاصةٍ أصابت شريانه، يسمع صوت أمّه تغنّي له في حقلِ التفاح، وهو طفلٌ يلهو بالترابِ والأحجار الصغيرة. حين توقف قلبه عن الخفقان، حلّق فوق تلك الحقول الملوءة بأشجار التفاح والكرمة، كان يشعر بسعادةٍ كليّةٍ، بحيث أن سعادة الخارجين من السجنِ، تغدو أمامها تعاسة حقيقية..
التاريخ: الثلاثاء5-10-2021
رقم العدد :1066