الملحق الثقافي:فرحان الخطيب:
أنْ تقرأَ ديوان شعرٍ كاملٍ لامرأة شغوفة بالحياة، ولا تفوح منه إلّا رائحةُ الوجع والحزن، على وطنٍ تقاطعت فوق رقبته سيوف الغدر والإرهاب، فهذا لعمري أمرٌ يستحق أن نجلوَ عنه، غبش الفكرة الموحية، أنّ المرأة لا تحوفُ نفسُها إلّا الغنجَ والدّلال، وما تدفعُ به نافورة نفسها من الغواية بملاحةِ حسنها وجمالها، لصورة امرأة – أي امرأة – طافحة بالأنوثة الجاذبة لرغباب شريك الحياة.
أمّا هنا، وفي «قلبي يحدّثني».. هذا العنوان المخاتل والمراوغ، والذي يوحى للمتلقّي، وهو العتبة النصّيّة الأولى، أنّ قلباً خليّاً من كلّ شيء، إلّا من لواعج شوقٍ وغرامٍ ونفحات هامسة بالحب، ولكن الشاعرة «فاديه عريج»، تعرج بنا إلى هواجسٍ أخرى، بل إلى تنهّداتٍ راجفة ونضّاحة بوجعٍ فردي، يتماهى مع وجعٍ جمعي، في إطار الحاضن الكلّي لنا وهو الوطن، لتجعل من بوحها عاطفة أنثى، تلتفُّ بغلالةِ أمومةٍ سخيةٍ بالحنان واللهفة، على وطنٍ تتمثلّه ابناً وحيداً تجرحّهُ صروف الزمن، وهي المكلومة به بحزن قلبٍ ودمعةِ عين.. تهدهده وترعاه ليشفى من علّة وسقام، وتجمّعُ دعواتها في سلال الأمنيات، من خلال نصوصٍ وكلماتٍ راعفة بألحان الشّجن والألم، تقول:
«هنا في وطني ..
يموتُ النّهارُ واقفاً وتنتحبُ الأحلامْ ..
وتجري الدّماءُ كنهرِ الفصولْ ..
والليلُ ..
يُرتّل ألحانَهُ الحزينةُ على قيثارةِ الأمنياتْ».. ص ( ٥٥)
ولأنّ الشّعرَ على حدّ تعبير الناقد «يوسف سامي اليوسف».. (يباشرُ الحياةَ، الوقائعَ، الأشياء الصغيرة، الأحداث التّاريخية، أو ما في جوف الإنسان، فهو لا يصوّر، بل يرسم مكابدة الوجدان).. فإننا نجد هذا المعنى في نسغ شجرة الخَلْق الشّعري، عند «عريج»، فهي كشّافة في بوحِ لغتها لعُرْي واقع،ٍ لا يحتمل التّجميل أو المساترة عمّا هو عليه، فتعبّر عن هذه المكابدة الوجدانية بصورةٍ درامية بقولها:
«تموتُ الفراشاتُ في قلبي ..
ويمشي الصُّبحُ إلى مثواهُ الأخيرْ ..
عيوني حزينةٌ..
ترشُّ نوافذ ذاكرتي بالقهقهاتْ..». ص ( ٨٩ ).
حينما الحزنُ ينقلب إلى قهقهاتٍ في ذاتِ وذاكرة المرء، عليك أن تتخيل الحالة العبثية الناتجة عن خوفٍ وهلعٍ، تصل حدّ الجنون على وطنٍ يقطرُ جسدهُ دماً، وعيونه معلّقة في سماوات الرّجاء، فيعلو منسوب قلق جدنا «المتنبي» عند الشاعرة التي تقول:
«لمْ نُخلقْ للحزن ياسيدي ..
فالعمرُ قصيرٌ ، والسّفر اقتربْ ..
متى رياحك الهوجاء تهدأ !!؟
كي تستقلَّ معي مركب الحياة .. « ص ( ٤2).
إنها تقترب هنا، من رحيلٍ وسفرٍ، ليس جفاءً وكرهاً للوطن، بل بسبب جراح الحياة، فعيونها رامحة إلى شريكٍ لها يقاسمها الحزن على وطن، وتخونها المدائن العربية، تقول:
«لا فرقَ بين المدائن العربية ..
والسّماءُ فيها عجوزٌ ..
والحربُ عكّازةٌ الإرهابيين والدّهاة ..
ونحنُ نفتّشُ عن أملٍ في حقائب السّفر .. « ص ( ٦٧ ).
نُساءل الشاعرة بعد هذا الخذلان العربي، إلى أين وجهتها ومقصدها؟.. ويأتي الجواب، وفي أكثر من موضعٍ:
«قل لي يا رفيق الإنسانيّة ..
كيف أداوي جراح الحياة في وطنٍ ..
مزقتْ جسدَه أنيابُ الذئاب !!؟ « ص ( ١٦).
في خضمّ هذا السيل من المفارقات، يهولُها مشهد الهجرة إلى خارج الوطن، فتقف على حافّة التّوجّس لتقول:
«وقفتُ على شاطىءِ البحرِ ..
أسألُ الزَّبدَ القادم من عمقِ البحار ..
طائرٍ مُهاجرٍ..
يبحثُ في ديارِ الاغترابِ عن الأمنِ والسلام ..» ص ( ٥١)
لقد ذبلت أمنيات الشاعرة، وهاجر الأحبة، وغبَّ التفاتة ناشجةٍ صوبَ الوطن، ترى أرتال الشهداء يحفها الورد من كلّ الجهات، فيحدوها أمل بانتصارٍ قادم، فتخاطبهم بعيونٍ محتشدةٍ بدمع حارق:
«أيّها الشهيد ..
لثمتَ ثغرَ الموتِ ضاحكاً ..
لأهازيجِ صوتكَ موسيقا الولادة ..
أغاني المطرِ للترابْ ..
ما يشعُّ من ضريحكَ هو المدى المخضوضر ..» ص ( ٣٤ ).
ولم يغادر التفاؤل الشاعرة، فلا تني تتذكّر أن للحياةِ سطوتَها وسطوعَها، على الرغم من كلّ المشاهد المأساوية التي تنداح على سهوب وسفوح الوطن، ورغم تشوّه مفردات الفرح، لابدّ من أملٍ. تقول:
«على الطّرقات الوعرةْ ..
هطلتْ دماؤنا أنغاماً خضراءْ ..
وزحفتْ على والوديان والتراب ..
علّها تزهر ربيعاً ..» ص ( ٨6).
ولم تكن الشاعرة مترددة في أنها ستحظى بنيلِ أمنياتها، رغم طول مقاطع نشيدها الموجع، فبكلّ نأمةٍ تدقّ على أبواب مشاعرها، تفتح كوّةً للأملِ وللانتصار، لسلامٍ قادمٍ يفكّ شيفرة هذا السّواد. تقول:
«أيّها السّلام تقدّم ..
عرّشْ في بلادي ..
واجمعْ عناقيدَ الفرح ..» ص ( ٢2).
يقول المثل: «قلب المؤمن دليله».. ونسأل: من أين للشاعرة هذه المساحات الملوّنة من الأمل والتفاؤل؟.. فتجيب:
«قلبي يُحدّثني ..
عن غصنِ زيتونٍ ..
وطيورِ سلامْ ..
يحدّثني عنْ فجرٍ يرسم على دروبِ الأيّام خطاه ..» ص ( ١٠)
إنّ كلّ الدّلالات المنبثقة من «قلبي يحدثني» تذهب بنا إلى حالتين تعيشهما الشاعرة، التّشظّي والأمل بآن، وبهذا استطاعت أن تبني توازناً نفسياً بين الخُواء والانتماء، لتنتهي بانتصارٍ أكيد، بأن مساحة الاخضرار هي القادمة لتعرّش فرحاً على تضاريس الوطن، وهذا ما يجعلنا نَهْجُسُ معها باخضرارٍ آتٍ..
«فاديه عريج» تبنّت طرح أفكارها بشكلِ قصيدة النثر، وقد استطاعت أن تجعلَ قلمَها يَرْشَحُ بكثيرٍ من المفردات المشعّة التي تمنح القصيدة نبضَها، أرانا إيّاهُ إيقاعٌ موّار بالموسيقا، ناتجٌ عن تجاور المفردات حسب قول «ت. س. إليوت»: «إنّ موسيقا الكلمة تنبع من علاقتها بالكلمات السابقة عليها، والتالية بعدها مباشرة، وبصورة غير محدّدة، وتصل إلى إيقاعٍ متموّج، وهو أمرٌ جوهريٌّ بالنسبة لبنيةِ القصيدة»…
ولعلّ ميلَ الشاعرة إلى السرد والمباشرة في بعض الأحيان، وتخلّيها عن الانشغال على الصورة المناسبة، ناتجٌ عن طغيانِ الفكرة التي تلحُّ على الشاعرة، لإظهارها للمتلقي بأقصر السبل، ولم أجد في لغتها الشفيفة والرشيقة أي تكلّف أو تقعّر، فهي غيرُ مقسورة أو مجبورة على التموضع في مكانٍ لا يناسبها، وهذه سمة من سمات نجاح القصيدة، بلغةٍ منسابة وسلسة في علاقتها مع المتلقّي.
«قلبي يحدثني» نشيدٌ وطنيٌّ موجعٌ، يهجسُ بمدى مخضوضرٍ آتٍ…
التاريخ: الثلاثاء12-10-2021
رقم العدد :1067