الشّعر ورمزيّةُ الجمال.. في القصيدةِ

الملحق الثقافي:داود السلمان *

اختيارُ العنوان لقصيدةٍ ما، أو قصّة، وكذلك لمقالةٍ، ليس بالعمليّة السهلة، بل هو بمثابةِ عمليةٍ قيصريّة، فثمّة معاناة حتى وإن كان مبدع النصّ، يمتلك حسّاً ذوقيّاً، وجماليّة معرفيّة، تفيض بالإحساس وتدفّق المعاني.
ثمّة مبدعون يحسنون اختيار العنوان من الوهلة الأولى لكتابة النصّ، ولا يعاودون تبديل ذلك العنوان الذي وقع عليه الاختيار، وهذا ما أجده لدى الشّاعر «وليد حسين» متحقّقاً في كلّ قصيدة، وليس في هذا النصّ فحسب، فالنصّ الذي وقع عليه الاختيار من قِبلِ الشّاعر، قد جاء على حين غرّة، كما أرى، ومن خلال معظم قصائده ونصوصه، فـ «أحتسي الشّعر» عنوانٌ باختيارٍ موفّق، يجعل القارئ مشدوداً لإكمال النصّ، والسير معه إلى شاطئ النهاية.
يقول الشّاعر «الحسين» في هذا النصّ:
«كحصانٍ جامحٍ
تُطاردني الشيخوخةُ
فأحتسي الشّعر
من دنانِ معتّقة
أرتقُ الوقتَ
بحثاً عن الأخطاءِ النحويّة
في منشوراتِ «الفيس بوك»
لأقوِّمَ ما اعوجَّ منّي
دون الولوجِ لمنتصفِ الفكرة»
الشّاعر يبدأ نصّه هذا، بجملةٍ وصفيّة، حيث «الشيخوخة» بحصانٍ جامح، لأن الحصان الجامح، ليس كالحصان المروّض، الذي لا تخشى عاقبته، وكانت العرب تعتني بالحصان أيّما اعتناء، كونه وسيلة النقل الوحيدة التي يتنقّل بها النّاس من قريةٍ إلى أخرى، حيث يقطعوا مسافات طويلة للوصول إلى مبتغاهم، والشيخوخة هنا يرمز لها الشّاعر بالمعاناة، أو بالشّدائد التي تطرأ على الإنسان، وخصوصاً في زماننا هذا، أو ربّما يعني بها مشاكلِ الحياة برمّتها.. الحياة التي وصفها العديد من الفلاسفة، بأنها لا جدوى منها، أو كما أرجِّح أنا، يعني مدعيّ الشّعر ممن يتعكّزون على هذا اللون من الإبداع، المشبوب بالعاطفة والإحساس، فيجعلون من أنفسهم مبدعين قابضين على ناصيةِ الشّعر، وهم في مهبّ الريح، لا يصمدون أمام المبدعين الحقيقيّين.
الشاعر، ولكي يقتل ضجر هذه المعاناة (إذا قبلنا بالمفهوم الأول لمعنى الشيخوخة)، طفق يحتشي الشّعر، فالشّعر هو الدواء الناجع للقضاءِ على داء المعاناة، والضجر وضجيج الحياة المتعبة، فلا يمكن لأيِّ مبدع أن يكتب نصّه الإبداعي، من دون أسىً ومعاناةٍ وأحزانٍ، تتراكم على فؤادهِ كغيومٍ داكنة، محمّلة بزوابعٍ رعدية ورياحٍ عاتية. ومثال على ما نقول: كان الكاتب الكبير «دوستويفسكي» يذهب الى أماكن القمار، فيلعب حتى يخسر كلّ ما يمتلكه، فيعود حزيناً منكسر الخاطر؛ ثم يلوذُ بعد ذلك الحزن والغمّ، إلى الكتابة والإبداع، بل ويكتب وهو في غمرةِ المعاناة والصراع النفسي، فنجده في رواية «المقامر» يؤكّد ذلك، حتى هجر القمار أخيراً وعاد إلى رشده.
يقول «دوستويفسكي»: «ربّ خاطرٍ هو أقربٌ إلى الخواطر منها إلى الجنون، وأدناها إلى الاستحالة، يبلغ من قوّةِ رسوخه في الفكر أن المرء يخاله ممكن التحقيق، حتى إذا كان هذا الخاطر مرتبطاً برغبةٍ قوية ملتهبة جامحة، فيعتقد المرء في النهاية، أنه أمرٌ حتميٌّ، ضروريّ، فرضه القدر منذ الأزل. أمرٌ لا يمكن إلا أن يكون، ولا يمكن إلا أن يحدث!.. وربّما كان هنا شيء أكثر من ذلك: ربما كان هاهنا مزيجٌ من نبوءاتٍ يسنّها المرء، من جهدٍ خارق تبذله الإرادة، ومن خيالٍ سمَّم المرء به نفسه بنفسه، ومن أشياءٍ أخرى».
مع ذلك، يعود الشّاعر لترتيب الوقت، وسط تلك المعاناة، وكلّ تلك الأشجان التي تكالبت عليه، لأنه في خضمِّ هدفٍ سامٍ يرومُ البوح به، وهذا الهدف هو: «بحثاً عن الأخطاء النحويّة في منشورات (الفيس بوك). إذن، هذه هي قضيّة الشّاعر.. القضية التي شاخ من جرائها وشابَ مفرقه، ويريد أن يفصح عنها، ولا يتصوّر متصوِّرٌ بأن هذه القضية هي سهلة بمكان، بل هي قضية معقدة؛ وتعقيدها يكمن في أن هناك كمّاً هائلاً من الأخطاء التي يرتكبها أصحابها، وبالخصوص من مدّعي الشعر، لأن عالم (الفيس بوك) هذا الكائن المترامي الأطراف، جعل كلّ من هبَّ ودبَّ يكتب ما يحلو له من مفردات، سطحية وساذجة، وهي مفكّكة على أنها شّعر وإبداع حقيقي، وهم كثر.
«حقيقةُ الأمرِ
تبدو مدهشةً
لكنّني أفتشُ عن طرائدَ هائمةٍ
في دياجيرِ الغرفةِ
ثمّةَ أناشيدٌ
في الليلِ
تختزلُ الماضي بملامحَ شاحبةٍ
ترسمُ وجهاً مأزوماً»
لا يقف الشّاعر عند ذاك الحدِّ الذي رسم ملامحه، وبات يبثّه كشكوى لمن يريد أن يسمع الشكوى.. شكوى مُبتلي بكمٍّ هائلٍ من الخطوب، كادت أن تقضّ مضجعه، وهو ما يصرّح به بالفعل، الأمر الذي جعله يغدو ويروح في دياجير غرفته، حائراً مفكّراً، غير مستوعبٍ للأمر وما يجري خلف عالمنا هذا، من ضجيجٍ ومن أصواتٍ نشاز تجبره الظروف أن يسمعها على مضض؛ حتى أنه يجدها كأناشيدٍ حينما يقبل عليه الليل (وعند الليل تتكالب الهموم). وكأنه بهذا يريد الهروب من هذا المجتمع، ليعيش عزلةٍ كالتي عاشها أبطال رواية «مئة عام من العزلة» للروائي «غابرييل غارسيا ماركيز»؛ فالرواية رغم تعقيدها وغموضها وأحداثها المتداخلة، إلا أنها مأساوية تعكس حياة المؤلّف وعزلته عن مجتمعٍ لا يجد فيه موطئ قدم، وربما معاناته المالية كذلك، والأزمات النفسية التي كانت تترادف على حياته. فلعلّ القارئ حينما يقرأ هذا النصّ للشّاعر «حسين» سيتذكّر تلك الرواية بشخوصها ماثلة أمامه.
مع ذلك، وعلاوة على ما جرى، فإنّ الشّاعر لا يلقى بالاً لما يحدث، أو أنه يتظاهر بذلك درءاً لوقوع مزيدٍ من المعاناة التي لا تقف عند حدّ، ولن تقف طالما الأمور تجري بهذا الإطار الذي أشار إليه في بداية نصّه «فلتكن..»، إذ يجد الغربة هي الأمان والملاذ، والغربة، بطبيعة الحال، غربتان: الغربة عن الوطن، وغربة الروح أو النفس، والاثنتان عذاب لا يطاق.
«فلتكن..
الغربةُ حافلةً بمواعيدَ مؤجلةٍ
فصلاة الصّبحِ في بغداد
تستنطقُ الصّمتَ
تستبقُ مآذنَ بلاد الشّامِ
ببعضِ الوقت
تدعوني لإطالةِ أمدِ اللهفةِ
قليلاً
فالفجرُ الصّادقُ يعلنُ عن بواباتٍ
مشرّعةٍ
تستقبلُ نفحاتِ المدينة
لتطلقَ الأزاهيرَ وزقزقات العصافير
صوبَ طلوعِ الشّمسِ»
وبحسب علمي، أن الشّاعر كتب هذا النصّ الجميل وهو في سورية، هذه البلاد العريقة التي لا تبعد عن العراق إلا مسافة ليست بالبعيدة جداً، قياساً إلى البلدان الأخرى النائية، وهو يشعر بالغربة والحنين إلى أحضان الوطن، ذلك الحضن الدافئ، ولعله استوحى هذا النصّ من غربته تلك.
يقول أحد الأدباء في هذا الإطار، أعني الغربة ونيرانها المستعرة: «لستُ أنسى بلداً نائياً حللتُ فيه يوماً منذ سنين، وكان آخر ما أتصوره هو أن ألتقي في ذلك المكان القصيّ، بمن تربطني به الصلات من قريبٍ أو بعيد، لكني ما كدت أستقرّ في غرفتي من الفندق ساعة، حتى جاءني شابان عربيان، كانا قد سمعا بمقدمي، أحدهما من فلسطين والثاني من لبنان، وكان لأحدهما سيارة، فعرضا أن يدورا بي في السيارة دورة، يُطلعانني فيها على معالم الإقليم، ويجدان خلالها فرصة لتبادل الحديث، وكانا فيما يبدوان كأنهما ممتلئان بالأسئلة عن الوطن العربي، ويريدان عنها الجواب؛ فالصحف في ذلك المكان النائي إقليمية، لا تكاد تذكر للقراء شيئاً ذا بال، عما يدور خارج حدود الإقليم من تجارةٍ، وأحداثٍ يومية تجري بها حياة الناس».
«من يدري ..؟
والطفلُ القابعُ في صدري
يسترعي انتباهَ العالم
بوشوشاتٍ خافتةٍ
كأنّها همساتُ عشقٍ صوفيّة
فالمناجاة
والأصواتُ المتداخلة
يردّدها دون لحاظٍ
لعلَّ الأمنيات شاخت بازديادِ الرغبةِ
وتقاطع المدنِ
وسوء توزيع الطاقة
ومازوت التفاهماتِ القاحلةِ
بالعجزِ المنصوصِ عليه
يتأرجحُ في مواقف منقوصةٍ
غيرِ مجديةٍ
وأنا وأنتِ..
ننتشلُ الضحكة من أنيابٍ مُسنّةٍ
منذُ مدٍّ يوميٍّ..
وجزرٍ ثابت».
ويستمر الشاعر، وهو يفلسف هذا البوح الموجع، بوصفِ كلّ ما يطرأ على باله من إيقاعات شجنٍ يصبها في قوالبٍ لحنيّة، تناغم أصوات ناي مبحوحٍ، بشجى الواقع الذي يمرّ به جسداً وروحاً، والذي هو مرادف لتجلّيات الكثير من الناس، وبالخصوص الشّعراء والمبدعين من كتّاب ومفكرين وفلاسفة، لأن هذه الفئة، على وجه الخصوص، هم أكثر الناس الملتزمة بإحساسِ الكلمة وبالمفردات التي تختارها، وتريد منها أن تصف الحالة التي تمرّ بها من غربتين: وطنية (من البُعد عن الوطن)، وروحية متمثّلة بالروح التي هي داخل الجسد، تُبدي الإحساس الصادق تجاه من تحب، لعلّ ذلك يشعرها بالاطمئنان، فتعود إلى رشدها تعالج نفثات الشجن المحبوس داخل هذه الروح المتعطّشة للوصال. هذه النفثات يصفها الشاعر «حسين»: «كأنّها همساتُ عشقٍ صوفيّة».. وكلّنا على دراية بأن للعشقِ الصوفيّ طلاوته، لا توزن بطلاوةِ العشق المتعلّق بالحبيبة التي هي من دمٍ ولحم، بينما العشق الصوفي ما يتعلّق بالفيوضات الربانية تجاه الموجد الأوّل، الذي أبدع (الروح) وصوّرها كطيفٍ نديّ.
 ناقد وشاعر عراقي

التاريخ: الثلاثاء12-10-2021

رقم العدد :1067

 

آخر الأخبار
تعاون اقتصادي وصحي بين غرفة دمشق والصيادلة السعودية: موقفنا من قيام الدولة الفلسطينية ثابت وليس محل تفاوض فيدان: الرئيسان الشرع وأردوغان ناقشا إعادة إعمار سوريا وأمن الحدود ومكافحة الإرهاب رئيس مجلس مدينة اللاذقية لـ"الثورة": ملفات مثقلة بالفساد والترهل.. وواقع خدمي سيىء "السكري القاتل الصامت" ندوة طبية في جمعية سلمية للمسنين استعداداً لموسم الري.. تنظيف قنوات الري في طرطوس مساع مستمرة للتطوير.. المهندس عكاش لـ"الثورة": ثلاث بوابات إلكترونية وعشرات الخدمات مع ازدياد حوادث السير.. الدفاع المدني يقدم إرشادات للسائقين صعوبات تواجه عمل محطة تعبئة الغاز في غرز بدرعا رجل أعمال يتبرع بتركيب منظومة طاقة شمسية لتربية درعا حتى الجوامع بدرعا لم تسلم من حقد عصابات الأسد الإجرامية المتقاعدون في القنيطرة يناشدون بصرف رواتبهم أجور النقل تثقل كاهل الأهالي بحلب.. ومناشدات بإعادة النظر بالتسعيرة مع بدء التوريدات.. انخفاض بأسعار المحروقات النقل: لا رسوم جمركية إضافية بعد جمركة السيارة على المعابر الحدودية البوصلة الصحيحة خلف أعمال تخريب واسعة.. الاحتلال يتوغل في "المعلقة" بالقنيطرة ووفد أممي يتفقد مبنى المحافظة الشرع في تركيا.. ما أبرز الملفات التي سيناقشها مع أردوغان؟ بزيادة 20%.. مدير الزراعة: قرض عيني لمزارعي القمح في إدلب تجربة يابانية برؤية سورية.. ورشة عمل لتعزيز الأداء الصناعي بمنهجية 5S