الثورة أون لاين_ فاتن أحمد دعبول:
يؤمن بأن الخالق وكما جاء في الآية الكريمة” الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان” قد خلق الإنسان لتعليمه البيان، وقد خص العرب في شأن تمكين البيان، وقد أبدت الشخصية العربية في سلوكها احتفاء منقطع النظير بالكفاية البيانية وإنشائها وصقلها وإيصالها إلى الغاية.
وفي محاضرته التي دعا إليها مجمع اللغة العربية يتوقف د. عيسى العاكوب عند تجلي الملكة البيانية في جنس العرب، ومجالي الطبيعة البيانية للشخصية العربية، ويعرض من أجل ذلك لنقاط عديدة أهمها:
الدلالة البيانية في تسمية العرب بهذا الاسم” عرب” وكأن الواضع لهذا الاسم أراد بذلك ظهور الإبانة والإعراب والإفصاح فيهم على أشدها، وقد استحق العرب هذا الوصف الذي صار اسما لهم من إعراب لسانهم وجودة بيانهم، كما يفضي التأمل لاستعمالات أصل العين والراء والباء إلى القول إن العرب في أصل المعنى صفة بيانية لسانية عرف بها هذا الجنس، فأطلقت عليه اسما.
كما بين د. العاكوب انتباه العرب المفرط إلى جمال الأداء اللغوي خاصة، بين جملة مظاهر الجمال البادية في الوجود، فقد خلب ألبابهم جمال بنات الألسن وسحر لآلىء المنطق، مادفعهم ليخصوه بالثناء حتى حين يكون محاطا بمظاهر أخرى للحسن والجمال، وكأنهم جبلوا على الافتتان بهذه الخلة الكريمة، فقد ذكر عمر بن عبد العزيز” ما كلمني رجل من بني أسد إلا وتمنيت أن يمد له في حجته، حتى يكثر كلامه فأسمعه”.
وأضاف: إن المتأمل في تاريخ التجربة الجمالية عند العرب يرى أنهم آثروا في الخلق البشرية صفات خاصة تغنوا بها وأعلوا من شأنها وذموا أضدادها، كما اهتموا بالبساطة والرشاقة في كلامهم، فصفات الجمال في بيانهم هي عين الصفات التي آثروها للخلق، وهزتهم وحركت طباعهم.
وقد اجتهد العرب إلى الغاية في تحسين مادة البيان في اللغة العربية، للحفاظ على مستوى لغوي يضمن للعربية وبيانها مادة لغوية أقدر ما تكون إبانا وإفصاحا وإظهارا للمقاصد، وقد وصلنا من الأخبار ما يؤكد أن الشخصية العربية في غاية الحساسية لمظاهر الجمال البادية في الأنفس والآفاق.
وبين بدوره أن ألفاظ اللغات جميعها تخضع لضرورتين متباينتين في طبيعتهما وهما” ضرورة الإبانة عن المسمى وتعيينه، واقتصاد الجهد المبذول في النطق” والشواهد كثيرة على أن العرب حافظوا على صورة اللغة العربية ودافعوا عنها، إلى أن تحقق لهذه اللغة معقل حصين داخل جزيرة العرب وما حولها، ما أسهم مع عوامل أخرى في إنمائها وتهذيبها وتجويدها، فجاءت أبنيتها الصوتية والصرفية والدلالية وفاقا لحسهم الطبيعي المتساوق مع بيئتهم وتكوينهم وقابلياتهم.
ويؤكد العاكوب أن القرآن الكريم يعزز الطبيعة البيانية للشخصية العربية، فقد جمعت قريش بين الزعامة الدينية والزعامة اللغوية في المرحلة التي سبقت بزوغ الإسلام، وجاء القرآن ليضع بين أيدي العرب نموذجا عاليا جدا للبيان ظلوا يقيسون كلامهم على فصاحته وبلاغته، ويقتبسون من مفرداته وأساليبه، وهيأ للأجيال في الأعصر المتعاقبة للاحتفاء بالعربية تعلما وتعليما وتأليفا، وعليه فسيظل البيان الإلهي في القرآن نصير العربية الآتي من السماء.
ولاشك تخلص المحاضرة التي قدم لها د. محمود السيد إلى أهمية العناية باللغة العربية التي اجتهد العرب على تحصينها والحفاظ على أصالتها وحمايتها من اللحن والتشويه، وهذا بدوره يحمّل القائمين على تمكين اللغة العربية لإعادة النظر في وسائل تدريسها وتكريسها في عقول هذا الجيل، بالتعاون مع المؤسسات التعليمية، فلا يكفي أن نتغنى بلغتنا وجمالها وفصاحتها وبيانها، بل الأجدى أن نعمل جميعا على تمكينها، فهي هويتنا وشخصيتنا قبل أي شيء آخر.