الملحق الثقافي:محمد الحفري *
“ليس الأمر كما يبدو” هي العملُ الثاني للكاتبةِ والمحاميةِ “مرغريت جمل” وقد جاءتْ بعدَ ديوانٍ شعريِّ، مقدّمة من خلالها -حسب وجهة نظرنا- ما هو مثيرٌ ومختلفٌ، ليسَ على الصعيدِ السرديِّ وحسب، وإنما على صعيدِ التقنيةِ أيضاً، وهذا ما يبعثُ على الدهشةِ أكثر، وهذهِ التقنيةُ تمثلتْ في العنونةِ التي تحملُ الكثيرَ من الدلالات، ثم زادتْ عليها في العنواناتِ الداخليةِ ومنها مثلاً: “المحارة الأولى لؤلؤة الصفقة ـ المحارة الثانية لؤلؤة الأرواح الهشة ـ لؤلؤة العشق” وغيرهم.. بعد ذلك، يأتي المكانُ الذي أثثتْهُ الكاتبةُ بشكلٍ متقنٍ، وأطلقتْ عليه مدينةِ “المحار”، وقد اجتمعتْ فوقَهُ عدةُ شخصياتٍ نذكرُ منها: “أسيل، تيم، جواد، أم عواد، سامية، سليمان”، لتشتغل بعدها على الزمنِ الذي تركز بينَ عامي 2007م ـ 2010م، ساعية للضغطِ كثيراً عليه، حيثُ كتبتْ مثلاً: “الساعةُ تشيرُ إلى الخامسةِ عصراً بتوقيتِ مدينةِ المحارِ من يومِ الخميس، أحدِ أيامِ مطلعِ الخريفِ من العامِ 2007م”. لكنّ هذا الزمنَ بقي مفتوحاً برأينا، رغم محاولةِ حصرهِ وتأطيرهِ، وقد عملتْ على كسرِ السردِ بشيءٍ من الحوار، ومن ثم زادتْ على هذهِ التقنياتِ بدخولِ الشيطان تارةً، والملاكِ تارةً أخرى، إلى ملعبِ روايتِها، لتوازنَ بذلكِ حياةَ أبطالِها وتشكلِهم بطريقتِها، وهو المنطقُ السليمِ، حيثُ تنقسم دواخلُنا كبشرٍ، إلى أكثرَ من ذلكَ في بعضِ الأحيان.
وعن السردِ نقولُ :إن الكاتبةَ قد تعاملتْ معهُ بطريقةٍ رصينةٍ، وكتبتْ بلغةٍ راقيةٍ اشتغلتْ فيها على التشويقِ، دونِ أن تسلّمَ لنا المفاتيحَ بسهولةٍ، ومن المقطعِ الأول نأخذُ الكلماتِ التي تستفزُنا، وتدفعُنا للسؤال عن قائلها؟ وكيفية تقسيم الصوتِ في هذا العملِ؟ وهل هو للملاكِ أم للشيطانِ؟.. أم “لتيم” في منولوجٍ داخليٍّ؟: “أحياناً يراودني إحساسٌ غريبٌ، فيخيلُ إلي أنني مسمارُك الصغير، وأنّك مطرقةٌ تدقُ فوقَ رأسي بلا هوادةٍ، فلا أستطيعُ أن أهربَ من ضرباتِك الموجعةِ، ولا أقدرُ أن أثقبَ جدارَ الحقيقةِ المرّة”.
الروايةُ تقترب كثيراً، بأحداثِها وجرائمِها والمستوى العالي للعبِ الفنيّ، من الدراما، وهنا أقتطع من الصفحةِ 33: “سأحققُ لك كلَّ أحلامِك وسأجعلُ الدنيا طوعَ بنانِك. أتاهُ على يسارهِ وبنبرةٍ أكثرَ خباثةً ومكراً قالَ: سأضعُك على دربِ المالِ والسلطةِ والجاهِ والشهرةِ، وكلِّ ما تتمناهُ”.
هذهِ الثيمةُ التي تتطرّق إلى الشيطان، تحيلنا من حيثِ سويّتها السامقة، إلى مسرحيةِ “إليخاندرو كاسونا” “الشيطانُ مرة أخرى”، وكيفَ عالجَ هذا الأمرَ، لنكتشفَ فيما بعدُ أنهُ يعيشُ في داخلِنا، ولعلّ من الجدير قوله: إن إشكالية قد وقعت من خلال دخول الرواية إلى عالم الجريمة والقتل، وكان يمكنها تجنب ذلك بكلّ بساطة.
في الخطِّ العامِ للرواية، وبعيداً عن الأحداثِ الأخرى، هناك قصةُ حبٍّ بينَ “أسيل وتيم” حيثُ تعترضُها الكتابةُ في خطِّها السرديّ،ِ وذلكَ عندما وضعتْ “جواداً” لهما بالمرصادِ، وقد حاول الاعتداء على “أسيل”، ليفسد تلكَ العلاقةَ، لذلك يتوجب علينا القولِ: إنّ الحبَّ عندما تدخلهُ ولو نسبةٌ ضئيلةٌ من الشكِّ، لن يكونَ كذلكَ، والعشقُ ثقةٌ مطلقةٌ، ولذلكَ فالبطلُ “تيم” لم يكنْ عاشقاً حينَ ساورتْهُ الظنون بحبيبته، عندما حاول صديقُهُ المريضُ النفسيُّ “جواد” النيل منها.. “أسيل” وحدها العاشقةُ والصادقةُ والصافيةُ، في سكبِ أحاسيسِها ومشاعرِها ونبضِها، وقد كانتْ ترمحُ مثل مهرةٍ أصيلةٍ فوقَ صفحاتِ هذهِ الرواية، وربما شردتْ مثلَ غزالةٍ أفزعتْها الخيبة على أرضِ الواقع.
في ختام هذه العجالة، يجدر التنويه أن الرواية صدرت عن “دار دال للنشر والتوزيع – دمشق”، وتقع في 239 صفحة من القطع الكبير.. وهي عملٌ مسبوكٌ بمهارةٍ، حيثُ اجتمعتْ فيهِ الكثيرُ من المقوماتِ التي تجعلهُ مشدوداً ومتماسكاً، وبالتالي نحن أمامَ بناءٍ سيتطاولُ ويتطاولُ، وأمامَ كاتبةٍ يبشّرُ نتاجُها بغلالٍ وفيرةٍ على الساحة الأدبية والفنية.
*روائي وقاص ومسرحي
التاريخ: الثلاثاء16-11-2021
رقم العدد :1072