حنجرةُ القصيدة.. تشدو للوطنِ والحبّ

 

الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي:

وحدهُ الشّعرُ الحقيقيّ، من يشيرُ إلى أصالةِ وبلاغةِ مبدعه.. هذا النداءُ الخفيّ، المعرّش على جدران الرّوح، والصوتُ المرسَل في الأمداءِ، ليترك صداهُ في الأعماق، مردّداً أغانيه الخالدة، مُذ أقدم نوتة سوريّة أوغاريتيّة، خرجت للعالم حاملةً معها كنوز النغم..
هذا ما نتلمّسه في ديوان «صوت كرّاز الجبل» الذي يفجّر فيه الشّاعر «قصي ميهوب» بريق الضّوءِ، فيحيلهُ إلى براكينٍ ثائرة في عالمِ الخلق والإبداع، ومقامات العشق وثّابة الهمس، مدوّناً نواميسه قلائدَ ثمينة، تزيّن قامة العشق ببهاءِ القصيدة.
يبدأ الشّاعر ديوانه، بإهداءٍ يرسم فيه صورة هذا العشق المتفاني، ومن ثمّ بمقدّمة تدورُ حول مفهوم الشّعر الحقيقي، الذي يميّز الشّاعر العاشق للشّعر، عن الشّاعر البعيد عن جوهرِ العشق ومعناه الحقيقيّ، في خلقِ الموهبة الشعريّة، التي تولدُ بعبقريّةٍ نادرة:
«كلُ من يعشق يكتبُ الشّعر، وليس كلّ شاعرٍ بعاشق، فالعشقُ كالشّعرِ يحتاجُ إلى استبسالٍ لاتّخاذِ موقفٍ، يدلّ على عاشقهُ»…
نعم، الشّعر لدى «ميهوب» تضحية وتفانٍ في سبيل الوصول إلى الهدفِ المنشود، وهو برأيه كما العشق، بريءٌ من كلّ اتّهام، وعليه ألا يسعى لنيلِ البراءة، وإلا فإنه يؤكّد أن القصيدة بريئة منه.. عليه أيضاً، أن يبتعد عن كلّ الإيديولوجيّات القاتلة، التي تسلبه هذا النقاء الذي ولد معه، ولأن ما يهمّ الشّعر شاعره، وما يهمُ الشّاعر قارئه، يتوجه الشّاعر إلى هذا القارئ، الإنسان السوريّ الذي يهديه صوته ونغمه وزجله:
«أفردتُ قسماً من كتابي هذا، لذاك المغرّد عبر تاريخِ الشّعر السوري، على أنغامِ أوّلِ نوتة موسيقيّة أوغاريتيّة.. تلك التي تجعلكَ تفهمُ لغة العصافير، فتغنّي مثلها زجلاً، ولن يكون للفصحى ذاك التمكين، إن أهملنا تلك الزغاريد».
يتابعُ قوله للقارئ، وبتوصيةٍ صادقة يقول فيها: في أمّة اللاشيءِ تتزاحمُ الجرار الفارغة على أبوابكَ، وعليك أن تملأها بشيءٍ منك.. وأنا ما زلتُ أحملُ السّماءَ على كاهلي وأمضي وحيداً.. عزائي الوحيد هو الشّعرُ عشقيَ الأبدي، فاعلم أيها العابر بي: إن الشّعر هو الجمال المؤلم، فاعشقِ الشّعرَ قبل أن تمسكَ قلماً..»..
يريد الشّاعر هنا، أن يوصّي القارئ المهتم بالشّعر، بأن يعبَّ من كنوزه ويغرف منها، حتى يتشبّع من هذا العشق ويخلص له، يحمل رايته ومشاعل نوره، قناديلاً تنير الدروب..
لقد زيّن «ميهوب» كلّ قصيدةٍ من قصائده الثمانية الأولى، بشموعِ أفكاره، بادئاً بـ «فن المرأة» وفكرته، بأن «المرأة الناقصة لا تنجبُ رجلاً كاملاً»..
إنها قصيدةٌ صارخة ومنتقدة للمرأةِ الماكرة والمخادعة، عبر مفاصلٍ تاريخية، يعرضها في قصيدةٍ طويلة، استناداً إلى أساطيرِ الخلقِ، وقصصه المغيِّبة لروحها الشّاعرة..
«المرأةُ الفنُّ:
الرسمُ صورتُها..
والروحُ موسيقى..
حركاتُها التمثيلُ…
صوتها الشّعرُ
حتى تفتّحتْ «فينوسُ»..
فأينها؟!..
أيها الشّاعر الممزوجُ من خمرِ الالوهة:
كيف غابتْ عن البدورِ الشّموسُ»؟!
يتساءل: أين آلهة الحبِّ «فينوس» لتنقذها من هذا التدنيس؟!.. لكنه لا يجدُ من يجيب سوى «البوح الصّامت»، حيث يحادث نفسه: «المرأة جنوني.. عفواً أنا المجنونُ بها.. لا مجنونٌ منها».. هي قصيدةٌ يردّ فيها على سائله عن عشقها:
«قالوا: عشقتَ؟!
نعمْ عشقتُ إلهةً
من خمرِ عنقودِ الكرومِ رداها..
نهرُ الفراتِ
بعينها اليُمنى جرى
والنيلُ يجري في مدى يُسراها»..
وفي قصيدة «بابلية».. يدعو المرأة: «اصهلي فأنتِ جهاتُ الأرض»:
«قميصُ «يوسفَ» لا للخلقِ سيدتي..
وفعلهُ غايةٌ في نفسِ من كانا،
يبكي عليهِ،
ولا دمعٌ يماثلهُ ..
بينَ الدموعِ كدمعِ الخمرِ من «قانا».
ننتقل إلى «الغائب الحاضر» الذي يعني به «الجندي المجهول: وهو «تجلّ من تجلّياتِ الوطن».. ذاك الذي أحاطتهُ القصيدة بجلالِ عنوانها، وقداسة قولها:
السّاهرونَ
على الجراحِ مقامُهم
كمقامِ «مريمَ» ساهرتْ آلامها
لما تبدّى
على الصّليبِ مُغرّداً
من كان يكرزُ في الحياةِ أمامها
قامَ الذي
بدمائها نوراً بدا
وغفتْ، فأشعلَ خمرها، وأقامَها»ّ..
أمّا «الكرّاز» القصيدة التي حملت عنوان الديوان، فقد بشّر فيها بمواسمِ حصادٍ مثمرة، بغمارِ القمح والعنب.. يلخّص ذلك بفكرته: «تتشوّق المرأة عاشقَها، كما تتشوّقُ سنبلةُ القمحِ حدَّ المنجل».. هو صوته، يحكي ما في داخله، وهو أيضاً: «هو صوتُ كرّاز الهوى/ يدعو صهيلَ المنجلِ»..
وعن «الإله المجهول» يبدأ بمقولته: «هذا العصرُ ملكُ العبقرية لا ملكُ الخرافاتِ..
يركّز الشّاعر هنا، على العمق الوجوديّ للشّعر السوريّ، المتغلغل في الروح التي لا يقربها الدنس أبدا.. يعرج على «ليلى» ملخّصاً ما يريد قوله بعبارةِ: «عندما يزور اللاهوت ناسوتَ امرأة سرا»، وهي قصيدةٌ ناقدة وفاضحة، لأساطيرٍ باطلة، طمست حقيقة الأنثى المبدعة.
«أغيبُ الآن عن «ليلى»
لتبقى أنتَ ليلَكَها
وأبقى سرّ ليلكتي
فكنْ يا شاعري وهماً
بريئاً من معاشقتي
وكنْ في عشقِ من تهوى
إلهَ الشّعرِ في لُغتي».
قصيدة الفصحى الأخيرة في الديوان، بعنوان «عاشقة الفهد الأسود» ويلخّصها: «للقطيعِ مرياعٌ واحدٌ.. ولكلِّ إنسانٍ مرياعهُ الأوحد».
نتملّس في هذه القصيدة، النقمة والسخط الجارف، على الشياطين الذين عاثوا فساداً في الجمال السوريّ، المتفرّد بعشقه لأنثاه الأرض والخصوبة، والزيتون والتوت والزعرور… الشياطين والمنافقين الذين نشروا الظلمة، والفتاوى التي تحلّل الحرام، وتحرّم الحلال.
تتألف القصيدة من ستة مقاطع، في الخامس منها، ينادي الشّاعر أنثى الخصوبة، مخاطباً إياها:
«فمثلُ «عشتارَ» التي من فيضِها
أنتِ.. ومن لاهوتِها نكرع، ولا نركع.
فهل صحراءُ قبلتنا ستولدُ فيها تينتُنا
وتولدُنا من الزيتونِ والزعرورِ والتوتِ؟؟؟
وأنتِ يا عسلاً تقطّرَ من ندى «صافونَ»
من بحرِ «مريامَ» حتى مغارةِ الزيتِ»
هذي أناهُ أناتكِ الأعلى .. فما النَّظرُ؟؟
من دونِ رؤياكِ لا رؤيا، ولا بصرُ
كأننا في صراعِ العمرِ نحتضرُ.»
يستنكر الشّاعر الوحشية التي مارسها أصحاب الفكر المتحجر، بحقّ أنوثة الأرض والحياة، والفتاوى التي أهانت مكانتها بطريقةٍ لم تفعلها حتى الحيوانات بحقّ أنثاها.. لم يفعلها «الفهدُ العنيدُ الصارمُ السّاعي، المشرَّفُ، والمقدَّسُ بالمساعي..».
نعم، لم يفعلها الفهدُ الصارم في سعيهِ لحماية هذا الجمال المتمثّل بالأنثى، فمن أنتم أيها المارقون الإرهابيون المخرّبون لهذه الجنّة والخصوبة والحبّ والتآلف المبدع؟!! لهذا البهاء في أرض النقاء؟!! لُعنتم على بشاعتكم المشوِّهة للخلق.
ينتقل الشاعر في النصف الثاني من المجموعة، إلى الزجل المعنون بـ «حكي عصافير»، ويضمّ هذا النصف واحدة وعشرين قصيدة زجل، يتابع فيها موضوع الأنثى، وما تفعله من حبٍّ وكراهية وهدمٍ وبناءٍ.. أيضاً، ما تُظهره من مفاتنها الحقيقيّة التي هي الراية والهدف، في تحقيق وجودها الحقّ، ويرمز لها بالأرضِ، وسورية الصرح الحضاري العنيد، أمام كلّ من يحاول تدميره، أو العبث به، ويتبدى ذلك جليّاً في قصيدةِ «صافون .. مريام»:
«بين الجبل، والبحر
….كمشة حكايات
تحكي معاني سورية الكبرى
ومع كل حبّة قمح
عشتار وعناة ..
موعد قصيدة، وشاعر، وفكرة».
نختار أيضاً، زجلية «الجوهره» حيث يشير الشاعر، إلى ناسوت الحضارة السورية ولاهوتها المتأصّل في الهوية.. المرأة الآلهة التي انطلقت ربوع الحياة واخضرارها وقيمها وأخلاقها، منها إلى جموع البشر:
«أنا ابن الشّمس والبدر المبجّل
الزهره بنت زهرا من ولادي
أنا السّوري بلاهوتي مأصّل
بناسوتي الحضارة والريادة».
في النهاية نقول: الشاعر «قصي ميهوب» غزيرٌ في شعره، ويغلب عليه الاحتفاء بالغزل، والعشق الحقيقي للجمال المتمثّل بأرضِ الخصوبة والتفاني والاستبسال، وفي تقديم الغالي للحفاظ على الفكر النيّر، البعيد عن الظلام والإرهاب، وقتل كلّ ما هو جميل في أرض الجمال.
الديوان إصدار: «دار بعل للطباعة والنشر». لوحة الغلاف الخلفي: أ.»أبجر نهرويو» خبير اللغات السورية القديمة، وتجسد اللوحة اسم الشّاعر بالأبجدية الأولى الأوغاريتية، وباللغة السريانية.
للشاعر ست عشرة مجموعة شعرية، وأعمال كاملة اثنتان، والثالثة قيد الطبع.

التاريخ: الثلاثاء16-11-2021

رقم العدد :1072

 

آخر الأخبار
France 24: إضعاف سوريا.. الهدف الاستراتيجي لإسرائيل فيدان: مبدأ تركيا أن يكون القرار بيد السوريين لبناء بلدهم "أوتشا": الألغام ومخلفات الحرب تخلف آثاراً مميتة في سوريا الرئيس العراقي: القيادة السورية من تحدد مستوى المشاركة في القمة العربية مؤتمر "نهضة تك" ينطلق في دمشق.. ومنصة "هدهد" لدعم الأسر المنتجة جودة طبيعية من دون غش.. منتجات الريف تصل المدن لدعم الصناعة السورية.. صفر رسوم للمواد الأولية أرخبيل طرطوس.. وجهات سياحية تنتظر الاهتمام والاستثمار مركزان جديدان لخدمة المواطن في نوى وبصرى درعا.. تنظيم 14 ضبطاً تموينياً اللاذقية: تشكيل غرفة عمليات مشتركة للسيطرة على حريق ربيعة الشعار يبحث تحديات غرفة تجارة وصناعة إدلب شراكة لا إدارة تقليدية.. "الإسكان العسكرية" تتغير! حمص.. 166 عملية في مستشفى العيون الجراحي أسواق حلب.. معاناة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة مهارات التواصل.. بين التعلم والأخلاق "تربية حلب": 42 ألف طالب وطالبة في انطلاق تصفيات "تحدي القراءة العربية" درعا.. رؤى فنية لتحسين البنية التحتية للكهرباء طرطوس.. الاطلاع على واقع مياه الشرب بمدينة بانياس وريفها "الصحة": دعم الولادات الطبيعية والحد من العمليات القيصرية