الملحق الثقافي:ترجمة: د.ثائر زين الدين ود.فريد الشحف
الحضارة – مقولة متحركة، تتحول أو تتشكل باستمرار. ويمكن تتبع انتشارها في الزمان من خلال ثلاثة جوانب.
إن لكل حضارة دورتها الحياتية التي تتألف من مراحل عدة:
– الولادة ( في بواطن المجتمعات السابقة ).
– التشكل ( في المركز)، والانتشار ( في الفضاء أو المكان )، واستكمال تشكلها من حيث البنية.
– النضوج، والتحقق الكامل لقدرتها الخاصة.
– البقاء على صورة ذخائر للمرحلة القادمة من تطور المجتمع، ضمن منظومة حضارية جديدة.
إن لكل حضارة سواء كانت كونية أو عالمية أو إقليمية دورتها الحياتية الخاصة بها، والمميزة لها. لا تمر الحضارات الإقليمية كلها بمراحل دورتها الحياتية جميعها، وبالانتشار الكامل في الزمان. إن الدورة الحياتية لبعض تلك الحضارات تنقطع بسبب الكوارث الطبيعية ( حصل هذا مثلاً للحضارة الميناوية، ولحضارة أطلنتيدا الأسطورية)، أو بسبب الصدام مع ثقافات أخرى (حضارات ما قبل كولومبوس في أميركا الجنوبية والوسطى، والحضارة السكيفية * البدائية ).
تتمثل الديناميكا في الزمان في التبدل الدوري لأجيال الحضارات الإقليمية، التي تتغير من حيث طابعها ومكوناتها. إن الجيل الأول من للحضارات الإقليمية ظهر على الكوكب في نهاية الألفية الرابعة- بداية الألفية الثالثة، وكما نرى في كل « طابق « من « طوابق « الحضارة له بنيته الخاصة، ويؤدي وظيفة محددة. لكن هذه « الطوابق « تتفاعل فيما بنها بشكل دائم، وتعيد تشكلها باتزان وتوافق، وبذلك تعبر عن جوهر قانون التناسب في بنية الحضارات وديناميكيتها، وعن الانسجام الصارم في سيرورة تطورها. ولهذا فإن الخلل الذي يصيب هذا القانون وبخاصة في المراحل أو العصور الانتقالية التي تشهد تحولات حادة، يخفض من فعالية النظام الحضاري. من حيث طابعها ومكوناتها. إن الجيل
الأول للحضارات الإقليمية ظهر على الكوكب في نهاية الألف الرابعة – بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، عندما انتهى تشكل «هرم» الحضارة ببناء «الطابق» السياسي الاجتماعي (ظهرت الطبقات، الحكومات، القانون )، وتغير جذرياً
و» الطابق « الاقتصادي ( ظهرت الملكية الخاصة، وبشكل واسع ظهر السوق بكل مؤسساته الخاصة ). وراحت الحضارات الإقليمية تبدل بعضها بعضا وتحل واحدتها مكان السابقة، وعلى تخوم القرن الواحد والعشرين حان وقت تشكل الجيل الخامس منها. انتشرت الحضارة الكونية في الزمان من خلال تبدل الحضارات العالمية، التي يبدأ حسابها الزمني منذ العصر الحجري الحديث، عندما بدأ ظهور الاقتصاد المنتج، وبدأت تتعقد – بشكل تدريجي- بنية المجتمع. نسمي سنوات أربعة الآلاف الأولى من هذه المرحلة الحضارة العالمية للعصر الحجري الحديث. مع أنها كانت أقرب بالتأكيد إلى الحضارة البدائية من حيث الأجزاء غير الكاملة المكونة «الهرم»، ولا يمكننا عملياً الحديث عن وجود الحضارات العالمية والحضارة الكونية بحجومها الكاملة إلا مع المرحلة التالية من تشكل الجيل الأول للحضارات الإقليمية و»استكمال» بناء «طوابقها»كلها و»شققها» المختلفة. وفق تصنيفنا فقد تتالت الحضارات العالمية وحلت واحدتها مكان الأخرى وفق الترتيب التالي: الطبقية المبكرة، القديمة، القروسطية **، الصناعية المبكرة، الصناعية.
جاء وقت تشكل الحضارة ما بعد الصناعية مع نهاية القرن العشرين، وهذا
الإيقاع – على العموم- سيستمر في المستقبل. ويجب الإشارة إلى تغير آخر للحضارة الكونية في الزمان، وهو – تبدل الدورات التاريخية العظمى، التي توحد ثالوثاً من الحضارات العالمية المتقاربة من حيث الأصول، وجيلاً أو جيلين من الحضارات الإقليمية.
إن الدورات العظمى هي العنصر الأكبر من عناصر الديناميكا الزمنية للحضارات تجمع الدورة التاريخية العظمى الأولى (نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد – أواسط اللف الأولى للميلاد ) الحضارات العالمية التالية: حضارة العصر الحجري الحديث والطبقية المبكرة والقديمة، وما يوافقها من الجيلين الأول والثاني من الحضارات الإقليمية، وتضم الدورة التاريخية العظمى الثانية ( وإطارها الزمني من القرن الخامس حتى العشرين ) الحضارات العالمية التالية: الحضارة القروسطية، والصناعية المبكرة، والصناعية، وما يوافقها من الجيلين الثالث والرابع من الحضارات الإقليمية.
أما الدورة التاريخية العظمى الثالثة، التي تبدأ في القرن الواحد والعشرين، فلا نعرف من مراحلها حتى الآن إلا الأولى التي نسميها: الحضارة العالمية ما بعد الصناعية، والجيل الخامس من الحضارات الإقليمية.
إن البحث في تاريخ الحضارات جعلنا نستنتج، نتيجة مهمة عن سنّة (قانونية) انضغاط أو تقاصر الزمن التاريخي، وبصورة أوضح نرى أن كل مرحلة أو خطوة جديدة في تاريخ الحضارات (العالمية، وأجيال الحضارات الإقليمية)، تتميز بدورة حياتية أقصر، وتسارع في وتائر التقدم التاريخي، وتزايد في سرعة نبض الديناميكا الدورية للمجتمع. فإذا كان المجال الزمني للحضارات العالمية الأولى وأجيال الحضارات الإقليمية الموافقة لها قد امتد عدة آلاف من السنين، فإن المجال الزمني للحضارات العالمية الأخيرة لم يتعد بضعة قرون، ويجب أن نتوقع استمرار هذه النزعة في المستقبل.
انتشار الحضارات في المكان:
بدأ تاريخ الحضارات على جزء صغير نسبياً من اليابسة، في المنطقة الواقعة إلى الشمال من خط الاستواء في القارات القديمة(إفريقيا-أوروبا، آسيا)، وإلى الشمال والجنوب من خط الاستواء بالنسبة للقارة الأمريكية. أما الجزء الباقي من سكان الأرض ممن يشغلون (الأويكومينا)، فكانوا يعيشون مرحلة ما قبل الحضارة، في حين أن الأجزاء الشاسعة الأخرى لم تكن مأهولة على الإطلاق.
اتسعت رقعة المجال الحضاري مرحلة بعد أخرى، وحضارة عالمية بعد أخرى، وتعمقت الصلات بين حضارات إقليمية محددة وازدادت متانة. ساعد في ذلك تطور طرق الاتصال ( البرية والنهرية والبحرية )، وظهور وسائل جديدة للتواصل: الخيول والجمال، السفن النهرية والبحرية، القطارات والزوارق والسيارات والطائرات.
واختتم عصر الاكتشافات الجغرافية الكبيرة في مرحلة الحضارة الصناعية المبكرة بدخول مساحة الأرض كلها عملياً ضمن المجال الحضاري الكوني (باستثناء منطقة القطب الجنوبي، وبعض المناطق الشمالية البعيدة، وبعض الأجزاء الصحراوية والغابات الاستوائية البكر حتى الآن )، وسيتسع هذا المجال الحضاري ليشمل (الأويكومينا) كلها، ثم سيخرج خارج حدود الكوكب في نهاية الحضارة الصناعية، غازياً الفضاء الخارجي. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الحضارة توزعت في الأرض بصورة «طبقة» متجانسة متساوية فعلى سطح الكوكب تجد حيويّة حضاريّة شديدة في بعض البقع: تتمثل في الحضارات الطليعية. تأتي بعدها (في النسق الثاني) حضارات من أصول مشابهة للأولى، وقريبة منها من حيث مستوى التطور. على أطراف التقدم تلك تقع حضارات متخلفة عن سابقاتها، ترتفع إلى المرتبة اللاحقة إنما بتقصير مقداره درجة أو اثنتين في الإيقاع (الريتم). وتقع في النسق الرابع: حضارات ودول ضعيفة التطور، غير قادرة على الإفلات من مستنقع التخلف الذي يبتلعها دون مساعدة خارجية، وبالتالي فإن مساحة الأرض، الفضاء الحضاري الكوني يمكن تصورها على شكل غطاء قماشي كبير مكون من قطع متعددة الألوان والمساحات تمت خياطة كل قطعة ذات لون محدد والممثلة لحضارة معينة بقوة من حيث اتصالها بالقطع الأخرى ووفق نسق يحدد سوية تطورها. وعليه فإن لون هذا الغطاء سيتبدل بصورة دائمة مع الزمن، لأن حضارات معينة ستتقدم إلى الأمام، لتصبح قائدة التقدم الحضاري، وتتراجع أخرى إلى النسق الثاني أو الثالث وهكذا دواليك. إن وحدة ديناميكا الحضارات الزمنية–المكانية، يمكن تصورها افتراضيا على شكل لولب يمثل التقدم الحضاري (أنظر الشكل 1-4 ) تتسع حلقاته الحلزونية في المكان وتتغير أو تتقدم في الزمان.
الالتفافة الحلزونية الأولى: للولب، تشمل الدورة الحياتية لحضارة العصر الحجري الحديث. إنها الأطول زمنياً، وتستغرق(حتى المركز)أكثر من أربعة آلاف وخمسئة سنة – أي نصف الزمن التاريخي بكامله تقريباً. في هذه المرحلة تكون الأنموذج الوراثي للحضارة، وارتسمت تدريجياً أبعاد وملامح» هرم « الحضارات، وسُكنت « طوابقه وشققه «.
الالتفافة الحلزونية الثانية: بدأت في النصف الثاني من الألفية الرابعة قبل الميلاد، في الوقت الذي تكون فيه الجيل الأول من الحضارات الإقليمية، وظهرت الطبقات والدولة، والقانون والملكية الخاصة والسوق، «الطوابق «و»الشقق» كلها في « هرم « الحضارات أصبحت» محجوزة «، وظهرت منظومة الحضارات الإقليمية والعالمية والكونية ( بالرغم من أنها لم تشغل أكثر من جزء صغير من الأويكومينا، لم يتجاوز 15% إلى 20%منها).
الالتفافة الحلزونية الثالثة: تعبر عن سيطرة الحضارة العالمية القديمة، والجيل الثاني من الحضارات الإقليمية وقد أصبحت تشغل 35% من مساحة الأويكومينا. وبرزت مجموعة من الإمبراطوريات العالمية الأولى . هذه كانت ذروة تطور الدورة التاريخية العظمى الأولى.
الانتقال إلى الالتفافة الحلزونية الرابعة لللولب: وهي تمثل حضارة القرون الوسطى والجيل الثالث من الحضارات الإقليمية – كان صعبا وطويلا، لتزامنه مع الانتقال من دورة تاريخية عظمى إلى أخرى. انتقل مركز التقدم الحضاري إلى الشرق ( الهند والصين )، وبدأت تتشكل الحضارة الأوربية الغربية، التي كانت في حالة حرب مستمرة تقريبا مع الحضارة الإسلامية التي ظهرت من جديد، وغيرها. هذه الحضارات التي كانت بدورها عدوانية جدا (سيطرة المغول على أوربا – الآسيوية كلها )، سيطر النمط الثقافي والاجتماعي ذو البعد الفكري القومي. ازدادت سيطرة الديانات العالمية على المجالات الروحية والسياسية.
انطلاقة الالتفافة الحلزونية الخامسة للولب الحضارة، عنت انتقال البشرية إلى الحضارة العالمية الصناعية المبكرة، إلى أسلوب الانتاج التقني، المانوفكتوري * إلى تطور رأس المال الصناعي، وظهور طبقات الرأسماليين، والعمال المأجورين، والثورات البرجوازية الأولى ( الأيرلندية – و الإنكليزية )، وتشكل الديمقراطية البرجوازية كنظام سياسي – بعد مرحلة
الحكم المطلق. وتشكل الجيل الرابع من الحضارات الإقليمية، وبالرغم من أن الحضارتين الصينية والهندية كانتا تتفوقان من حيث عدد السكان والناتج القومي، إلا أن القيادة انتقلت عمليا إلى الحضارة الأوربية الغربية الفتية والعدوانية، التي تطورت بوتائر سريعة، واحتلت الجزء الأكبر من العالم في عصر الاكتشافات الجغرافية، وقضت على الحضارات ما قبل كولومبس في القارة الأمريكية. خلال هذه المرحلة أيضاً اندلعت في أوربا – بشكل خاص – ثورة علمية عظيمة، من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر، وتم استيعاب وتمثل الانجازات الرائعة لعصر النهضة، وحصلت أهم انقلابات التنوير والتحديث في المجال الروحي. وكانت الحضارتان: الأورو-آسيوية (الإمبراطورية الروسية)، والإسلامية (الإمبراطورية العثمانية) هما الوحيدتان القادرتان على مواجهة الغرب.
ذروة الدورة التاريخية العظمى الثانية تم بلوغها في الالتفافة السادسة لللولب الحضاري في مرحلة الحضارة العالمية الصناعية، وبزوغ ومن ثم غروب الجيل الرابع من الحضارات الإقليمية، وانتصار النظام الثقافي- الاجتماعي الحسي. أعادت الثورة الصناعية تشكيل المجال الاقتصادي والتقني، وسرعت مرات عدة من وتائر النمو الاقتصادي، بحيث أصبح أحد عوامل النمو المتزايد السكان. وفتحت حرب الاستقلال في أمريكا الشمالية والثورة الفرنسية العظمى الطريق للتحولات الراديكالية في النظام السياسي – الاجتماعي، ولترسيخ الديمقراطية البرجوازية. ترافقت هذه الأحداث بثورات وحروب متتابعة، حصلت في القرن الثامن عشر – بداية التاسع عشر، وصولا إلى القرن العشرين.
استقبل غروب الحضارة الصناعية بتشكل الدول الشمولية، والأزمة العميقة للثقافة. في القرن التاسع عشر ظهر النظام الكولونيالي (الاستعماري) للإمبريالية، الذي انضم إليه الكثير من الحضارات القديمة. وشهد القرن العشرون عدداً من الثورات الوطنية – التحررية، وانهيار النظام الإمبريالي، وكذلك النظام الاشتراكي العالمي مع نهاية القرن نفسه، وبالتالي القضاء على الاستقرار القطبي، ما جعل أزمة حضارية عميقة تسيطر على الكوكب، مرتبطة بانتهاء الدورة التاريخية العظمى الثانية.
الالتفافة السابعة: في لولب الحضارة تبدأ على مشارف القرن الواحد والعشرين، والتي ستسيطر – على الأغلب – مدة قرنين من الزمان على الفضاء الحضاري، وستؤدي إلى إعادة تشكيل الحضارة الكونية راديكاليا، في بداية الدورة التاريخية العظمى الثالثة. وتتكون الحضارة ما بعد الصناعية النوسفيرية * الإنسانية، والجيل الخامس من الحضارات الإقليمية. وهناك مؤشر عديدة توحي بأن البناء الثقافي – الاجتماعي الحسي المسيطر في الغرب سيتم استبداله ببناء تكاملي متناسق قائم على الانسجام ( الهارموني )، وفق التعديلات الشرقية والروسية وبعض الغربية. في بداية الالتفافة السابعة للولب الحضارة، اصطدمت الحضارة الكونية بثلاثة تحديات مرحلية. التحدي الأول منها سكاني (ديموغرافي): فمن الملاحظ في عدد كبير من الدول حدوث تناقص في عدد السكان، وازدياد في نسبة الشيخوخة*.
التحدي الثاني: بيئي ( إيكولوجي ): فقد استهلكت مصادر الطاقة على الأرض وغيرها من الثروات الطبيعية، وبرز خطر الكارثة الكونية. أما التحدي الثالث الذي تواجهه الإنسانية فهو العولمة، بأنموذجها الليبرالي الجديد، عندما تصبح الهوة بين الشعوب والحضارات الغنية من جهة والفقيرة من جهة أخرى أكبر من أن يتم تجاوزها.
إن الثورة العلمية – التقنية القائمة في أيامنا هذه، وتشكل البناء الثقافي – الاجتماعي التكاملي، يهيئان الظروف لحل التناقضات المذكورة، من أجل موجهة ناجعة لأسئلة القرن. وما سيكون عليه جوهر الإجابة وراهنيتها وملاءمتها، ترتبط نتيجة ما إذا كانت الحضارة العالمية في القرن الثاني والعشرين ستدخل التفافيتها الثامنة من لولب الحضارة أم ستكون نهاية الإنسانية.
تأليف: يوري ياكوفيتس وبوريس كوزيك
التاريخ: الثلاثاء30-11-2021
رقم العدد :1074