الملحق الثقافي:بقلم – الدكتورة نجاح العطار:
كثير من الحبر والورق أهرق حتى الآن في موضوع الشعر ، وبالتحديد في جزء خاص من هذا الموضوع هو الغموض والوضوح ، حتى ليخيل إلى القارئ أننا نعود إلى تلك المعركة القديمة التي ثارت في الوطن العربي حول مفهوم الأدب التقدمي وغير التقدمي ،
وحول الالتزام واللاإلتزام، فكانت حصيلتها كلها جملة من التعريفات لم تغن الموضوع كما أغنته الأقلام المبدعة التي كتبت الأدب التقدمي فقدمت بذلك مثالاً له، وكتبت الأدب الملتزم فقدمت مثالاً له وكان هذان المثالان في النتائج التالية خير شاهد على مدى مافي تقدمية الأدب والتزامه من واقعية وصدق وأصالة ، ومافي نقيضه من زيف ، لأنه يتصدى لمهمة خاسرة ، ومافي مقولة الالتزام أو عدمه من سفسطة لأن كل أدب في نهاية الأمر ملتزم على نحو ما.
ولقد ذهب أنصار الغموض في الشعر إلى أنهم يريدون جماليته وحداثته لأن الوضوح يبسط هذا الشعر فينفي منه ذلك الاحساس المتوهج الذي يولده في النفس، ويقلص امداء الايحاءات التي يبعثها ويحلق بها في أجواء الخيال ، هذا الزاد الضروري للشعر ضرورة الخبز للبشر، كما ذهبوا إلى أن الغموض هو وليد العصر، فهذا العصر المركب المعقد المتجزئ الذي ينعكس في الذات بكل مواصفاته الغريبة لايمكن التعبير عنه إلا بلغة غريبة مثله، وبرموز مبهمة على القارئ أن يتخلى عن كسله ويشحذ ذهنه كي يتوصل إلى فهمها والارتفاع إلى مستواها الشعري.
بمعنى آخر ، أن الشعر الحديث يحتاج إلى قارئ حديث، أو متذوق حديث في وسعه أن يرقى باحساساته إلى تلك الذروة التي يحلق فيها هذا الشعر ليكون بإمكانه أن يستوعبه ويحياه وأن هذا الشعر، دون هذا الغموض ، يكون تقليدياً يفقد الحداثة ، التي هي بعض ثوريته ، إن لم نقل كلها.
وقد قرأت مؤخراً رأياً في موضوع غموض الشعر يقول إن الأصوات كثيراً ماترتفع متهمة الشاعر الحديث بالغموض وخاصة إذا كان هذا الشاعر يدين بالواقعية ويتعامل مع القصيدة الحديثة، ويعتقد أن للفن وظيفة اجتماعية.
ولعمري أن مثل هذه الأصوات لم ترتفع عندنا أبداً، فالشاعر الواقعي الذي يرى أن للفن وظيفة اجتماعية لايمكن أن يلجأ إلى الغموض ، لأن الغموض ، في المفهوم المحدد للواقعية ووظيفة الفن الاجتماعية ، يصبح عقبة تحول دون التوصيل بين الشاعر وجمهوره، وعندما يفقد الشعر قدرته على التوصيل يفقد واقعيته ووظيفته الاجتماعية على السواء.
صحيح كما يقول الكاتب: «إن عالم الشعر هو الأخصب ، وهو الأكثر قدرة وفعالية على اكتناز واحتواء العالم في داخله ومن ثم اعادة تجسيده ، بصورة رؤى تحمل للإنسان القدرة على تفسير العالم جمالياً ، والقدرة على النهوض والصمود» ولكن هذا العالم الشعري الخصب يغدو مجدباً ، في القصيدة التقليدية أو الحديثة ، وخاصة الحديثة ، إذا هو لجأ عامداً إلى الغموض ، وإلى الابهام الذي هو غموض مستغلق، لأنه في هذه الحال لن يكون قادراً على تجسيد العالم في رؤى ، وعلى تفسيره جمالياَ أو فنياً ، يكف عن أن يكون عامل تحريض على النهوض والصمود، لأن شرط التحريض هو الفهم، ومن لايفهم شيئاً لايستطيع أن يتأثر به، أو أن ينهض أو يصمد على أساسه.
إن السريالية التي كانت نبت حضارة معينة هي في طريقها إلى التأزم ، سرعان ماضمرت مع ضمور الاستغلاقات التي لجأت إليها، وهذا الأدب ذو الجناح القاتم الذي أعطته، لم يصمد أمام سطوع الفكر الماتح من الواقع، وقد رأينا أبرز السرياليين من مثل أراغون وغيره، يهجرونها إلى الواقعية ، أو يتخلون عن استغلاقاتها بحيث تشف تعبيراتهم عن معانيها دون وضوح مسطح، ودون ابهام مغلق.
ولئن أراد بعضهم عن طريق الغموض، تفسير عالم غامض، فإن صنيعهم لم يزد على أن أبهم الأمور وعماها، وقتل الجمالية التي قالوا إنها هدفهم ذلك أن « الجميل – حسب تعبير بوالو في كتابه «فن الشعر»- هو الحقيقي، الحقيقي ولاشيء آخر»، ومايكون حقيقياً لايكون غامضاً ، فالحقيقة مشعة دائماً كالشمس في نيسان.
وحجة اللحاق بالركب الحضاري لاتستقيم مع العودة إلى الأنفاس المحتضرة لعصر البورجوازية ، بل في تجاوزها إلى الآفاق التي انفتحت مع عصر الاشتراكية، حيث يمتزج رسم عذابات الانسان وتمزقاته في العالم الرأسمالي مع تطلعات هذا الانسان وكفاحه للارتفاع على اليأس ، والتمرد على الخضوع، والتماسك أمام الاحباطات والانقسامات ، واستشراف المستقبل الذي يشكل كلا منيراً يحدد مسار الإنسان في مأتاه ومغداه.
وليس المرء بحاجة إلى كبير عناء كي يدرك أن الغموض الشعري ناشئ في الأصل عن غموض الفكرة الشعرية في ذهن الشاعر ، واختلاط المفهوم الذي يحمله عن العالم ، وتشتت الرؤى الذي يضطره إلى رصف الكلمات ونثر أجزاء الصور ، دون قدرة على جمعها وتظهيرها ، ودون قدرة على صياغتها شعرياً في منطق متماسك يقدم صورة لما يريد أن يقول ، وهذا مايجعل الرداءة الشعرية تطفو على السطح ، ويحيل القصيدة الحديثة – في الأغلب- إلى معميات ذوات رموز مكررة إلى درجة الاملال، والفاظ منحوتة بجهد بالغ التعسف والاخفاق.
فإذا تصورنا بعد ذلك أن هذا الغموض يراد به الحداثة، فالحداثة تكون في فهم العصر والقدرة على التعبير عنه، وقد كان ماكس بول فوشيه مصيباً في قوله إن الحداثة تعني أن يكون الفنان ابن زمانه، يتجاوب باستمرار مع مشكلاته فيعيشها ويرسخ جذوره فيها، بحيث يصبح هو هي، وهي هو، وهذه المعاناة الكاملة هي التي تمكنه من أن ينشئ تاريخه وواقعه تأليفاً فنياً تكون له قيمة الفن في التأثير المطلوب آنياً، والاضافة الباقية مقبلاً.
في 21 نيسان 1955، كتبت المجلة الأدبية السوفيتية تقول: « من المعروف أن لينين وجه نقداً حاداً إلى رواية فينينشكو « وصايا الاباء» المشبعة افتراء ، في رسالته إلى اينيسن أرمند ، وقد أشار في هذه الرسالة أيضاً إلى « التقليد الرديء، الرديء جداً، لدوستويفسكي، هو عيب هذه الرواية» ومع هذا فقد قال أكثر من مرة إن دوستويفسكي كاتب عبقري حقاً ، تأمل الجوانب المرضية في مجتمعه فقط، ومؤلفاته تنطوي على الكثير من التناقضات والانعطافات ، لكنها تتضمن في الوقت نفسه لوحات حية مأخوذة من الواقع».
إن التقليد الرديء في شعرنا الحديث يكاد يكون ظاهرة عامة، وهذا التقليد يصبح رديئاً جداً حين يعمد صاحبه، تغطية لرداءته، إلى الغموض ومهما يكن الواقع تعيساً ، والنفس الانسانية معذبة، فإن الشعر قادر على التعبير عن هذه التعاسة وهذا العذاب إذا هو اعتمد الواقع واستمد منه، ونبذ تلك النزعة المستبدة والقاتلة إلى الرموز المغلقة التي أصبحت «وصفة شائعة» في تركيبة القصيدة الحديثة عند اللاموهوبين.
لقد استدعى الاغتراب في المجتمع الرأسمالي جملة من النشاطات الذهنية التي لم تنطلق من الفهم الصحيح لحقيقة الاغتراب ، وعبرت هذه النشاطات عن نفسها في الأدب بتلك الموجات أو الصرعات التي نحاول نحن تقليدها ، لكن الاغتراب في المجتمع الرأسمالي ، حيث الآفاق مسدودة أمام حل المشاكل القائمة ، يصبح مفهوماً كمنحى أدبي متأزم ، في الشعر أو في الرواية على السواء أما عندنا فالمشاكل تختلف ، وآفاقها تختلف وطبيعة النظرة إليها تختلف أيضاً إن مشكلة الاغتراب تزداد عمقاً وحدة بمقدار ما يزداد العلم والتقنية تطوراً ، وبمقدار ما يزداد المجتمع القائم على أساس الملكية الخاصة تعقيدأ ، فأين نحن من مثل هذا المجتمع التقني، وأين مشاكلنا من مشاكله، حتى تكون أدواتنا في التعبير متساوية مع أدواته التعبيرية، أو حتى يمكن ايجاد المبرر لتقليدها على الأقل؟
لابد من فهم طبيعة واقعنا وحياتنا أولاً – وتلك بديهية- وحين يفهم الفنان مجتمعه وأرضه وناسه والذين يحيطون به يستطيع أن يعبر عنهم بالاداة التعبيرية التي يتخذها لنفسه غير أن الموهبة ، حتى لو توفرت ، يبقى اتجاه استخدامها هو الأهم. وقد طرح يوما شولوخوف هذا السؤال «كيف أقدر الموهبة؟» وأجاب على سؤاله بما يلي: « إذا أخذنا بعين الاعتبار القدرة على الكتابة وحدها، لكان لدينا من الكتاب ستة ملايين لا ستة آلاف. طبيعي أن الشرارة الإلهية لازمة ، غير أن الأهم من ذلك اتجاه الموهبة، نحو ماذا هي موجهة، ومن الذي تخدم ؟ إنه لمهم أن تكون هذه الموهبة في خدمة الشعب».
ولو سلمنا مع الذين يفيضون في الحديث عن توافق غموض الشعر مع غموض الحضارة فعن أي حضارة يريد هؤلاء أن يعبروا؟ ومن يخدمون بغموضهم هذا إذا كان الشعب لايفهمه؟ ثم كيف تكون الثورة بالشعر إذا لم يفهم الشعر نفسه حقيقة الثورة ودوره المساعف لا الحاسم فيها؟ يقال في أيامنا هذه أن الثورة الثقافية يجب أن تسبق الثورة الاجتماعية ، وهذا عكس للأمور ، فدون ثورة اجتماعية – ووطنية تحررية أيضاً في مثل ظروفنا- ليس في الوسع القيام بثورة ثقافية ، ذلك أن ملكية وسائل هذه الثورة هي في يد المجتمع الذي مازلنا غير قادرين على السيطرة عليه، وغير قادرين على استخدام وسائله لصالح ثورتنا الفكرية.
وعلى هذا يكون دور الثقافة الاسهام في تنمية الفكر الثوري، وفي مساعدته على أن يمتلك نظرية ثورية دونها ليس ثمة ثورة على الاطلاق. وكي يقوم الأدب – والشعر خاصة- بمثل هذا الدور في التوعية والتحريض، لابد أن يكون مفهوما من الذين يتوجه إليهم في الأصل ومن هذا المنطلق فإن الخلاص في الشعر لايتم إلا إذا كان الشعر أداة خلاص، وإلا إذا كان- حسب تعبير بول ايلوار – قادراً على منح الرؤية للناس.
الملحق الثقافي لصحيفة الثورة العدد «13» تاريخ 3/6/1976
التاريخ: الثلاثاء30-11-2021
رقم العدد :1074