الملحق الثقافي:فؤاد مسعد
كثيراً ما يحمل المبدع هموماً كبيرة تتجاوز طموحه الفردي لتصل في حدودها إلى ما هو أعم وأشمل ، هناك من ينوءون تحت هذا الحمل بعد فترة وآخرون ينطلقون منه للتعاطي مع مفردات الواقع والحياة فيؤلفون منها حياة جديدة عبر ما يقدّمون من نتاج إبداعي مُشبع بروحهم ، يبثونه أفكارهم ورسالتهم التي يطمحون إيصالها إلى أوسع شريحة ممكنة ، مترجمين ما يسكن وجدانهم من هواجس وشغف ، ومن هذا المنظور جاء تعامل المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد مع قضايا أمته من خلال رؤيا كثيراً ما نادى بها وجهد إلى تحقيقها عبر ما قدم من أفلام ساعياً إلى ترسيخ هوية تحمل الكثير من الانتماء والكثير من الابداع .
النشأة والانطلاقة :
بالإرادة القوية وبالعزيمة والتصميم يمكن تطويع الصعاب وتحقيق المستحيل ، هي عبارة تلخص مسيرة حياة كاملة مليئة بالعمل والعطاء لمخرج سوري عالمي استطاع أن يحفر اسمه بماء من ذهب على صفحات التاريخ ، إنه المخرج الراحل الكبير مصطفى العقاد (1933 ـ 2005) الذي ولد في مدينة حلب ضمن عائلة متوسطة الدخل حيث كان يعمل والده موظفاً في الجمارك وسعى إلى تنشئته تنشئة أخلاقية ودينية وقد تعلّم في مدارس حلب وبداء حبه للفن السابع ينمو رويداً رويداً ، يقول في أحد لقاءاته واصفاً بزوغ طموحه في تلك المرحلة (حلم أن أكون مخرجاً في هوليود راودني منذ أن كان عمري أربعة عشر عاماً) ويعيد السبب في ذلك إلى جاره الذي كان يعمل مشغلاً لآلة العرض السينمائي ضمن صالة السينما فيأخذه معه للسينما ويجلس في غرفة العارض ليتابع الفيلم مجاناً من هناك كما يتابع آلية عمله وكيف كان يقص المشاهد الممنوعة من الفيلم ، ومنذ ذلك الوقت أبدى اهتمامه بدراسة الإخراج ما جعله محط سخرية الكثيرين خاصة بعد إفصاحه عن حلمه بأن يصبح مخرجاً في هوليود ، ولكنه لم يأبه لكل ذلك ، وعندما أبدى هذه الرغبة لوالده عارض بداية ولكنه وافق في النهاية أمام إصرار مصطفى العقاد الذي عمل لمدة سنة كاملة كي يجمع ثمن بطاقة الطائرة ، كما أحضر كتباً في مجال الإخراج لدراستها وفهمها قبل مغادرته ، ولدى السفر وضع له والده في الجيب الأول مئتي دولار وفي الجيب الآخر القرآن الكريم ، وانطلق في رحلته إلى أمريكا لدراسة الإخراج ، حدث ذلك عام 1954 .
درس في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA) وكان من المتفوقين وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة جنوب كاليفورنيا (USC) ، ثم بدأ رحلة البحث عن عمل ولكن دون جدوى حيث رفضت توظيفه سبعة استديوهات وجميع محطات التلفزيون ووكالات الإعلان ، ولكنه استطاع عام 1962 أن يعمل مساعداً للمخرج الشهير ألفرد هيتشكوك ثم أنتج برنامجاً عن الأثنيات في الولايات المتحدة الأمريكية وقدمه لشبكة NBC التلفزيونية ، وقد احتفظ باسمه في امريكا ورفض فكرة تغييره .
مسيرة عطاء :
أخذ المخرج الراحل على عاتقه مهمة العمل على تغيير الصور النمطية السلبية التي يحملها الغرب عن الإسلام ، ولتحقيق ذلك بدأ بفيلم (الرسالة) وتبعه بفيلم (أسد الصحراء ـ عمر المختار) وكان طموحه إنجاز فيلم عن صلاح الدين الأيوبي يؤدي فيه دور البطولة الممثل العالمي شون كونري ، وبدأ رحلة البحث عن التمويل اللازم لإنجازه إلا أن يد الموت كان السباقة إليه .
جاءت انطلاقته الحقيقية نحو العالمية عبر فيلم (الرسالة) عام 1976 الذي صدر بنسختين عربية بطلاها عبد الله غيث ومنى واصف وإنجليزية بطلاها أنطوني كوين وإيرين باباس ، وقد شارك في كتابة النسخة العربية عدد من كبار الكتاب العرب ، ويحكي الفيلم عن رسالة الإسلام محاولاً إظهار حقائق كانت مغيّبة عند العالم الغربي ، عن ذلك يقول في أحد لقاءاته (كانت غايتي شرح الإسلام بلغة الغرب وبممثليهم) ، وقد راعى أخذ موافقة المرجعيات الدينية لإنجاز الفيلم ، ولكنه ما لبث أن لاقى الكثير من المتاعب وحرباً شعواء على الإنتاج الذي تم إيقافه لفترة بسبب الضغوط ، حيث انطلقت عمليات التصوير في المغرب واستمرت ثلاثة أشهر ثم توقف لمدة شهرين وتم الانتقال فيما بعد إلى سبها في ليبيا لاستكمال التصوير ، وحتى عندما انجز الفيلم وبات جاهزاً للعرض عانى الكثير من الصعوبات فقد تم منعه في عدة دول وحورب حتى لدى عرضه في أمريكا , وقد تمت ترجمة الفيلم إلى أكثر من اثنتي عشر لغة ، وبلغت تكلفة النسختين عشرة ملايين دولار أمريكي ، وقد رُشّح إلى جائزة الأوسكار عن أفضل موسيقى تصويرية ، أول عرضه له كان في لندن في سينما بلازا .
وضمن هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى أنه بعد مضي أربعين عاماً على العرض العالمي الأول لفيلم (الرسالة) تم إنجاز نسخة مطورة تقنياً وصورة محسنة بجودة عالية الدقة عن الفيلم (وفق الجودة الرقمية 4k) تم عرضها في العديد من العواصم العربية بما فيها دمشق ، هذا التحديث الذي أجراه المخرج مالك العقاد نجل الراحل الكبير يحمل في مضمونه رسالتين الأولى أن (صاحب الرسالة الذي استشهد رسالته مستمرة) والثانية أن التقنية المتطور التي قدم من خلالها من شأنها تحفيز الجيل الجديد على مشاهدته .
النجاح الذي حققه فيلم (الرسالة) وتدرّبه على يدي ألفرد هيتشكوك كانا الحافز وراء انطلاقته مع سلسلة أفلام (هالوين) حيث أنجز منها ثمانية أجزاء وكان هو المنتج المنفذ العالمي الوحيد الذي شارك في جميع أفلام السلسلة من عام 1978 حتى عام 2002 ، كما قدم أفلاماً مثل (موعد مع الخوف) عام 1985 وفيلم (جولة حرة) عام 1986 . وخلال تلك المرحلة وتحديداً عام 1981 أخرج فيلمه العالمي الثاني (أسد الصحراء ـ عمر المختار) باللغة الانجليزية وتمت دبلجته إلى اللغة العربية وتناول فيه بطولة الشعب الليبي ضد الاحتلال الإيطالي بقيادة عمر المختار ولعب دور البطولة أنطوني كوين ، وكان العرض العالمي الأول للفيلم في دمشق .
الرحيل المرّ :
في التاسع من شهر تشرين الثاني عام 2005 ، وقع تفجير إرهابي في فندق بالعاصمة الأردنية عمان حيث كان المخرج مصطفى العقاد هناك في استقبال ابنته ريم التي توفيت فوراً بينما نقل هو إلى مستشفى المركز العربي وتوفي فيها بعد يومين (11 تشرين ثاني) متأثراً بإصابته ، ونقل الجثمان إلى دمشق حيث تم استقباله بشكل رسمي وشعبي ثم نقل بطائرة خاصة إلى مدينة حلب مسقط رأسه في نعش ملفوفاً بالعلم السوري ، وتم التشييع يوم الأحد الرابع عشر من تشرين الثاني ووري الثرى في المقبرة الجديدة خارج حلب .
يذكر أن الراحل الكبير الذي استشهد وكان لا يزال في جعبته الكثير ينجزه قد تم تكريمه في العديد من المحافل وحصد جوائز من مهرجانات عربية وعالمية ونال العديد من الأوسمة .
التاريخ: الثلاثاء30-11-2021
رقم العدد :1074