الثورة – فردوس دياب:
في ظل تزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، باتت الصحة النفسية محوراً أساسياً في الحفاظ على توازن الإنسان وجودة حياته، فلم تعد قضايا القلق والاكتئاب مجرد حالات فردية، بل ظواهر تستدعي اهتمام المجتمع ومؤسساته الصحية والتعليمية.
وبالتالي فإن تعزيز الوعي بأهمية الصحة النفسية يمثل خطوة جوهرية نحو بناء مجتمع أكثر استقراراً وإنتاجية، حيث لا يكتمل عطاء الإنسان إلا بعقل سليم ونفس هنية.
حول أهمية الصحة النفسية في حياة الإنسان، التقت صحيفة الثورة الاختصاصي في الإرشاد النفسي الدكتور أحمد محمد يوسف الأستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق، والذي استهل حديثه بالقول: “إن الصحة النفسية تمثل حالة من التوازن والاستقرار الداخلي التي تمكّن الإنسان من التعامل مع ضغوط الحياة اليومية بكفاءة ومرونة، ذلك أن الفرد السليم نفسياً هو من يستطيع العمل والإنتاج بفاعلية، والتواصل بطريقة صحية، وبناء علاقات إيجابية مع الآخرين ومحيطه، فالصحة النفسية لا تعني غياب المشكلات أو التحديات، بل تعني قدرة الإنسان على التكيف مع التغيرات التي تطرأ في حياته، والبحث عن حلول مناسبة دون فقدان توازنه الداخلي، مبيناً أن من أبرز مظاهر الصحة النفسية شعور الإنسان بالرضا عن ذاته، وانسجامه مع نفسه أولاً ثم مع الآخرين، وهذا ينعكس إيجاباً على سلوكه وعلاقاته ومشاركته في المجتمع.
وأكد الدكتور يوسف، أن الصحة النفسية تعرف بحسب منظمة الصحة العالمية أنها حالة من العافية التي يتمتع بها الفرد، حيث يكون قادراً على استغلال قدراته الخاصة للتعامل مع ضغوط الحياة اليومية بفعالية، ويعمل بشكل منتج، ويتواصل مع الآخرين بشكل حقيقي، كما أنها ليست مجرد غياب للاضطرابات النفسية، بل هي القدرة على التكيف، وإيجاد الحلول، وتحقيق التوازن بين مختلف جوانب الحياة: المجتمعية، العاطفية، والأكاديمية، والمهنية.
وعن كيفية الاعتناء بالصحة النفسية، أوضح يوسف أنها ضرورة أساسية للحفاظ على توازن الإنسان وجودة حياته، وأن الطريق إلى ذلك يبدأ من التعبير الصادق عن المشاعر دون خجل أو حواجز، بالإضافة إلى نظام الحياة الصحي الذي يمثل ركناً محورياً في دعمها.
كما لفت إلى أهمية التواصل الاجتماعي الداعم، والمتمثل في شبكة من الأشخاص المقربين القادرين على التعاطف وتقديم الدعم النفسي دون تجاوز الحدود الشخصية، أيضاً ومن الضروري، عند مواجهة أي أزمة أو اضطراب الوعي بضرورة طلب المساعدة من المختصين النفسيين في الوقت المناسب، كإجراء وقائي لا يقل أهمية عن مراجعة الطبيب عند التعرض لمرض جسدي، ذلك أن الوقاية تبدأ من إدراك الذات ومراقبة الأفكار والمشاعر وتوجيهها نحو الإيجابية.
خط الدفاع الأول
وشدد يوسف على ضرورة أن يكون للأسرة والمجتمع دور محوري في حماية وتعزيز الصحة النفسية للأفراد، ذلك أن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء شخصية الإنسان، وهي تشكل مصدر الأمان والدفء والقبول غير المشروط، كما أن البيئة الأسرية الداعمة تساهم في تنمية التواصل الإيجابي بين أفرادها، وتشجع الطفل أو المراهق على بناء ذاته وتحقيق أحلامه بطريقة متوازنة، دون خوف من النقد أو الأحكام السلبية المستمرة، وهذه الأجواء الإيجابية تهيئ للفرد أساساً نفسياً متيناً يجعله أكثر قدرة على مواجهة التحديات الحياتية بثقة واستقرار، فالفرد الذي ينشأ في بيت يحتويه ويدعمه عاطفياً، يكون أكثر قدرة على طلب المساندة عند الحاجة، ما ينعكس إيجاباً على صحته النفسية، في المقابل، يضيف الدكتور يوسف، أن الحرمان من الأمان العاطفي داخل الأسرة قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية بدرجات متفاوتة، تصل أحياناً إلى حد الاضطرابات الشديدة. وأشار أيضاً إلى أهمية البيئة الاجتماعية والمهنية في تعزيز الصحة النفسية، ذلك أن الفرد الذي يعمل في بيئة عمل داعمة يشعر بالراحة والرضا النفسي، بخلاف من يعمل فقط بدافع الحاجة المادية دون دعم أو تقدير.
أما بالنسبة للأطفال والمراهقين، فشدد يوسف على أهمية التكامل بين الأسرة والمدرسة ذلك أنهم مصدر الدعم العاطفي، وأن هذا التعاون يخلق شبكة دعم متكاملة تحيط بالطفل وتمنحه شعوراً بالانتماء والأمان وبالمقابل البيئة المضطربة تجعله مهيئاً للإصابة بالاضطرابات النفسية.
ولفت إلى أن النمذجة السلوكية تلعب دوراً أساسياً في تكوين شخصية الأبناء، فحين يرى الطفل والديه يتعاملان مع الضغوط والمشكلات بطريقة صحية ومتزنة، يكتسب هذه المهارات تدريجياً، أما في حال غياب الهدوء والحوار البنّاء في الأسرة، فإن الطفل يتبنى أنماطاً سلبية في التعامل مع التحديات، وينعكس على صحته النفسية وسلوكه الاجتماعي لاحقاً.
وبيّن يوسف أن البيت هو خط الوقاية الأول من الاضطرابات النفسية، مؤكداً أن الطفل الذي ينشأ في بيئة أسرية آمنة مشبعة بالعاطفة والحبّ ينمو بثقة وقدرة عالية على مواجهة الصعوبات، بفضل تمتعه بما يسمى :”الذكاء الاجتماعي و العاطفي”.
داعياً إلى تعزيز الوعي المجتمعي بالصحة النفسية، وتشجيع الأفراد على طلب المساعدة من المختصين دون تردد، مشيراً إلى أنه يجب انتشار ثقافة الرعاية النفسية في الجامعات ومؤسسات العمل والمنظمات المجتمعية وضرورة قبول الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية ودمجهم في المجتمع، مع توفيرمراكزومؤسسات موثوقة تقدّم خدمات الدعم النفسي، باعتبارذلك جزءاً أساسياً من المسؤولية الاجتماعية والرعاية الإنسانية الشاملة في بناء مجتمع أكثر توازناً وتفهماً.
تفاصيل صغيرة تصنع فرقاً
وبيّن الاختصاصي النفسي :أن تعزيز الصحة النفسية لا يتحقق بخطوات معقّدة، بل يبدأ من الاعتناء بالجسم والنوم الكاف والتغذية السليمة وممارسة الرياضة بانتظام وممارسة الهويات المحببة ، فهذه العادات البسيطة تترك أثراً واضحاً في تحسين المزاج واستقرارالحالة النفسية ، كما أن العلاقات الاجتماعية الإيجابية من أهم عوامل التوازن النفسي، لذلك يجب الابتعاد عن العلاقات السامة التي تستنزف الطاقة وتؤثر سلباً على الثقة بالنفس، والاقتراب من الأشخاص الذين يمنحوننا المحبّة والقبول غير المشروط ، سواء من الأسرة أو الأصدقاء المقربين، لأن وجود شبكة دعم اجتماعية آمنة تمثّل ركيزة أساسية للصحة النفسية، فهؤلاء الأشخاص يتقبلوننا كما نحن، دون أحكام أو انتقادات، ويكونون إلى جانبنا في أوقات الضعف والضغوط.
كما أوصى يوسف بضرورة تنظيم نمط الحياة اليومي بحيث يوازن الفرد بين العمل والراحة، وألا يرهق نفسه حتى يصل إلى مرحلة الانهيار، بل يمنح جسده وعقله فترات استراحة منتظمة، مع تقبّل فكرة طلب الدعم النفسي من المختصين أو الجمعيات والمنظمات التي تُعنى بالصحة النفسية، كما يجب الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة هو ما يصنع الفرق الحقيقي، مثل الانتباه إلى مصادر التوتر وإدارتها بطرق صحية، والتحكم في ردود الفعل بأسلوب هادئ وواعٍ.
كما نوه إلى أهمية مراجعة الطبيب عند استخدام الأدوية النفسية، لمعرفة آثارها الجانبية المحتملة على المزاج، وممارسة تقنيات الاسترخاء والتأمل واليوغا لتحسين التركيزوتصفية الذهن .
وتابع يوسف الحديث بالقول : يجب تعزيز الوعي بأهمية الاهتمام بالصحة النفسية بالقدر نفسه الذي نولي فيه العناية بصحتنا الجسدية، فالصحة النفسية مسؤولية فردية بالدرجة الأولى، تبدأ من وعي الإنسان بنفسه واحتياجاته، وتمتد لتشمل مسؤولية جماعية يقوم بها المجتمع في دعم أفراده وتوفير بيئة آمنة ومساندة لهم، منوهاً إلى أن جميع البشر يمرّون بمشاعرالضغط أو الحزن أو الإحباط ، وهي مشاعر طبيعية في سياق الحياة اليومية، إلا أن الأهم هو كيفية التعامل معها بطريقة صحية، ومشاركتها مع الأشخاص المناسبين القادرين على الاستماع والدعم دون حكم أو تقليل، كما يجب عدم تجاهل الإشارات الجسدية التي قد تكون مؤشراً على اضطرابات نفسية، مثل آلام الصدر، أو القولون العصبي، أو قرحة المعدة، أو اضطرابات النوم، فالجسد والعقل وجهـان لصحة واحدة، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
وختم الدكتور يوسف حديثه بالقول:” إنه بمناسبة ” اليوم العالمي للصحة النفسية”،تتجدد الرسالة الأساسية: بأن الاعتناء بالصحة النفسية ليس رفاهية، بل هو أساس للحياة المتوازنة والقدرة على مواجهة تحديات العصر بثقة ومرونة.