الثورة – هفاف ميهوب:
في دراسته لظاهرة العنف ضمن النطاق الاجتماعي، يرى الباحث والمفكر “ندره اليازجي” بأن الإيديولوجيات والمعتقدات والمذاهب السائدة، لعبت دوراً كبيراً في الصراعات التي أدّت إلى تفشّي العنف، وبأن التعصّب القومي الذي جعل الدول تقف ضد بعضها البعض، بأسلوبٍ يؤدّي إلى الحروب والاقتتال، قد لعب الدور ذاته، ليكون الدور الأكبر والأخطر، للتقدّم التكنولوجي الذي ساهم في ازدياد العنف، واتّساع نطاقه في العالم.
يرى “اليازجي” ذلك، ويعتبر بأنه أمرٌ واقعي لا يمكن تجاهله أو نكرانه، ذلك أن “كلّ تقدّم تقني يُستغل لدعم إيديولوجيا أو عقيدة، يُعتبر سلاحاً قاتلاً في يدها، ويكون بالتالي وسيلة عنف”..
حتماً، لم يعد ذلك غريباً أو مُستنكراً بالنسبة لنا، بل ولكلّ من شهد الدور الذي لعبته كلّ وسيلة من وسائل هذه التكنولوجيا، ليس فقط في الحرب التي ّشنت على سورية، وإنما أيضاً في كلّ الحروب التي نراها تشنّ في عالمٍ، لا تزال الدول التي تدّعي السلام والديمقراطية والعدالة فيه، تسعى لتدمير بعضها البعض، معتمدة على التقدم التقني الذي يمدّها بأسلحةٍ عدّة، يمكن القول بأنها جميعها تستخدم لنشر العنف وتدمير الإنسانية.
كلّ هذا، ويستمرّ الإنسان في عجزه أمام التطور التكنولوجي، بل وأمام العنف الذي وجده أشدّ انتشاراً من السلام الذي افتقده إثر هذا التطور، فقد انسجم معه بطريقةٍ أفقدته إنسانيته، وسلّحته بأطماعه وشروره وأحقاده، وإلى الدرجة التي جعلته وعلى رأي “اليازجي”: “يستغل التقدّم التقني لتوطيد أطماعه التي تتراءى في مظاهر متنوعة: مظهر الدفاع عن الوطن، وعن معتقد أو وجهة نظر.. مظهر محاربة العقائد الأخرى، والحفاظ على حريات البلدان الأخرى، وكذلك مظهر الحفاظ على كرامة الإنسان..”.
إنه ما تلمّسناه وشهدناه، مثلما تلمّسه وشهده “اليازجي” الذي اعتبر أن أكبر مساوئ التكنولوجيا “قيام عدد من الدول باحتكارها وتسخيرها سلاحاً لنشرِ سيطرتها على غيرها.. مثلاً، وعلى مستوى الدولة، قامت الدول القوية باستغلال الدول الضعيفة، وعلى المستوى الفردي ـ الجماعي، تأسّست شركات احتكارية كبرى، لتسيطر على المنابع الرئيسية للمواد الخام في العالم، دون أن تأبه لمصير الملايين، ودون أن تأخذ مصير البشرية جمعاء، بعين الاعتبار.. هذه الاحتكارات استُثمرت لاندلاع الحروب وإشعال الفتن والاقتتالات، حتى تستمرّ مصالحها التي تدلّ على قمة العنف، لأنها وسيلة مدمّرة للازدهار الانساني والعالمي..”.
بيد أن الأشد خطورة من كلّ ذلك، معرفة إنساننا المعاصر بمقدار ما استلبه ووجّهه هذا التقدم الذي غلب فيه البربري على الحضاري، مع بقائه عاجزاً عن مواجهة العنف الذي ينشره، أو تحصينِ نفسه من مخاطره، وبفكرٍ يضيءُ جنبات الحياة ويرتقي بإنسانها، ويقلّل ما أمكن من انحطاطها وظلامها…
السابق