الثورة – سلام الفاضل:
يقول سقراط: “إن الحكمة الحقيقية التي يمكن أن يحوز عليها كل منا هي عندما يدرك كم هو قليل ما يفهمه في الحياة، وفي ذاته، وفي العالم المحيط به”. وإذا اتخذنا هذه المقولة مدخلاً ننشئ عليه كلامنا، فإننا سندرك أن طَرْفنا مهما امتد واسعاً في الأفق، سيظل قاصراً عن إدراك كنه علوم بعينها، أو أساليب فكرية، أو أسس نفسية، أو سوى ذلك ما لم يتلقف كل جديد حولها يمكّنه من تلمس وفهم أبجديتها. والتحكّم الخفي بالإنسان هو شكل من أشكال التأثير على الآخرين، والتحكّم بلاوعيهم دون أن يحسوا بذلك، وبصرف النظر عن إرادتهم الشخصية، وبالاعتماد على احتياجات الإنسان، التي صنّفها أ. ماسلوي وفق التصنيفات التالية: (الاحتياجات الفيزيولوجية “طعام، ماء، سكن، راحة،.. إلخ” – الحاجة إلى الأمان – الحاجة إلى الانتماء إلى جماعة ما – الحاجة إلى الاحترام والتقدير – الحاجة إلى تقدير الذات)، يضاف إليها الحاجة إلى الأحاسيس الإيجابية.
ولكن هل من الأخلاق التحكّم بشخص آخر بشكل خارج عن إرادته؟؟ في الجواب عن هذا السؤال ينبغي الاستناد إلى درجة أخلاقية صاحب المبادرة، فإن كان هدفه الحصول على مصلحة شخصية على حساب الضحية، فإن ذلك يسمى تلاعباً، وهو أمر غير أخلاقي بالتأكيد؛ بيد أن التحكم إن كان يخفي خلفه أهدافاً نبيلة كأن يوجّه مثلاً الأب طفله بشكل لطيف ورقيق بعيداً عن الأوامر ليدفعه بشكل غير مباشر إلى العمل في الاتجاه الصحيح، أو في العلاقة المتبادلة بين الرئيس والمرؤوس، فإن التحكم هنا لا يُعدّ تلاعباً، بل إنه يصون كرامة الآخر ووعيه بحريته الشخصية. كما أننا قد نرى أشكالاً أخرى من التحكّم الخفي بالآخرين تأتي من خلال الثرثرة بالأفواه، أو عدوى الأقران، أو الإعلانات التجارية، أو غير ذلك.
وكتاب (التحكم الخفي بالإنسان) تأليف: فيكتور بافلوفيتش شينوف، ترجمة: د. غسان محسن المتني، الصادر مؤخراً ضمن “المشروع الوطني للترجمة” عن الهيئة العامة السورية للكتاب يتحدث عبر أبوابه الأربعة، وفصوله ثمانية عشر عن أساليب التأثير على الناس، والأساليب السيكولوجية للتحكّم الخفي، وتقنياته، ومخططه، وفي هذا يقول مؤلف الكتاب: “يحتوي التحكّم الخفي في طياته على مراحل عدة تبدأ بجمع المعلومات حول من يُطبَق عليه التأثير، ثم كشف أهداف التأثير، فالجاذبية، فالانتقال إلى إجبار من يقع عليه التأثير على العمل، لتنتهي هذه المراحل بفوز المبادر بالتأثير”. وفي أغلب الأحيان لا يكون التحكّم الخفي أمراً بالغ التعقيد هكذا، إذ يجري بشكل أكثر بساطة، ويتضمن جزءاً فقط من الكتل الموصوفة مسبقاً. ويتابع مؤلف الكتاب كلامه في السياق ذاته: “ويمكن الإجبار الخفي على الفعل بطرق كثيرة منها: استخدام صفقات مناسبة – تحضير المعلومات المنقولة للمرسل إليه – وسائل الإقناع – الخدع النفسية والوسائل البلاغية”.
ويتطرق هذا الكتاب أيضاً إلى الإجراءات الوقائية المستخدمة للحماية من التحكّم الخفي والتلاعب، وفنون التحكم الخفي في حياتنا، ويعرض المؤلف لكل ذلك عبر سوق أمثلة كثيرة على استخدام هذه الآلية وتطبيقها على العلاقات الإنسانية ككل، ويخلص إلى رسالة مفادها أن من يرغب الظفر بالكثير عليه الاعتماد على عقله وتفكيره، “إذ إن التسلل إلى عالم الخطر – كما يقول (مونتن) – يعني بدرجة ما التوقف عن الخوف منه”. وهكذا يكون المؤلف في هذا الكتاب قد قدم مادة كافية للاقتناع بمدى تغلغل التحكم الخفي، وتنوعه الأناني في حياتنا بعمق، أي (التلاعب)، داعياً القرّاء ممن وقع منهم ضحية للتلاعب إلى إيجاد الطرق الملموسة في الكتاب للدفاع عن أنفسهم، وآملاً من الآخرين الاطلاع على الكتاب كي يفهموا معنى التحكم الخفي، وأشكاله، وأساليبه.