الثورة – عبير علي:
أُقيمت في المركز الثقافي بأبو رمانة اليوم، محاضرة غنيّة بالمعلومات والحنين إلى الماضي بعنوان “المنسوجات الحريرية في سوريا – البروكار”، ألقاها المهندس والباحث في التراث الشعبي محمد دبور، الذي أخذ الحضور في رحلة عبر الزمان والمكان، كاشفاً أسرار حرفة عريقة لطالما كانت جزءاً من هوية دمشق التاريخية.
استهلّ دبور محاضرته بتعريف سوريا بوصفها ملتقى الحضارات القديمة، ومستودعاً زاخراً بالتراث الشّعبي والثقافات المتنوعة، ومن أبرز مكونات هذا التراث، الصناعات النسيجية، التي تميّزت بها البلاد منذ القرن الأول قبل الميلاد. فقد كانت هذه الحرفة مرآة لحضارات تعاقبت على الأرض السورية، حتى أصبحت دمشق مركز التميز والإبداع فيها، ومنها انتقلت إلى الأندلس، حاملة معها روعة الذوق الدمشقي، في ثياب من الحرير والكتان، مزينة بأجمل الرسوم.
وأشار دبور إلى أن هذا الفن عُرف في الغرب تحت اسم “داماسير” (Damasser)، وهو نسبة إلى دمشق، عاصمة النسيج وفنون الزخرفة، وتفرعت من هذه الصناعة الدمشقية تسميات عديدة مثل: الدامسكو، البروكار، الأغباني، الأطلس، الديما.. وغيرها، وكلها إبداعات حملت بصمة الأصالة السورية، ووجدت طريقها إلى العالم.
الحرير الدمشقي الفاخر
أفرد دبور حيّزا خاصاً في محاضرته للحديث عن البروكار، ذلك النسيج الدمشقي الشهير المصنوع من الحرير الطبيعي، والذي يُعد من أرقى وأعقد الأنسجة الحرفية في العالم. وعرّف البروكار بأنه نسيج حريري دمشقي، يعتمد في صناعته على خيوط الحرير التي تنتجها دودة الحرير”القز”، والتي تتغذى على أوراق شجرة التوت المنتشرة في بعض قرى الساحل السوري ومنطقة مصياف.
وذكر دبور أن القيمرية، أحد أحياء دمشق العتيقة، كانت تُعرف باسم “الهند الصغرى” لكثرة الأنوال فيها، وانتشار الحرفيين المتخصصين في الأعمال الحريرية. وقد أُحصي أكثر من 100 نوع من الأقمشة اليدوية التي أبدعتها الأيادي الدمشقية، لكن البروكار يبقى تاجها.
من دودة القز إلى النول
قدّم دبور شرحاً دقيقاً ومثيراً لطريقة صناعة البروكار، حيث تبدأ الرحلة من تربية دودة القز، مروراً بتحويل خيوطها إلى شلل (حزم) تُجهز للحياكة اليدوية، ثم تُركب على نول البروكار، وهو نول خاص يختلف عن الأنوال المستخدمة في صناعة البسط أو السجاد أو القنابيز.
وقال إن خيط الحرير الناتج عن دودة القز لا يتجاوز 30 ميكرون، ويحتاج الحرفي إلى نحو 4500 متر طولي منه للحصول على غرام واحد فقط من الحرير ويتم إدخال كل خيط بدقة داخل ما يُعرف بـ”النيرة” في عملية تُسمى “الملقي”، حيث تتقاطع خيوط السدى (الطولية) مع خيوط اللحمة (العرضية) لتُنتج النسيج.
وأوضح دبور أن البروكار يأتي بنوعين:
الضيّق: ويحتوي على 3200 خيط (كل قسم 1600).والعريض: يحتوي على 7200 خيط (كل قسم 3600).
من آلاف الأنوال إلى العشرات
استعرض دبور التحوّلات التي شهدتها هذه الصناعة، مشيراً إلى أنه – وبحسب ما ورد في كتاب “خطط الشام” لمحمد كرد علي – كان في سوريا قبل الحرب العالمية الأولى 22 ألف نول يعمل عليها نحو 100 ألف حرفي في وقت كان عدد سكان سوريا لا يتجاوز مليوني نسمة. وفي عام 1926 تراجع العدد إلى 3 آلاف نول، أما اليوم فلم يبقَ سوى عشرات منها فقط.
رسومات تروي الأساطير
وأشار دبور إلى أن زخارف البروكار لم تكن مجرد أشكال هندسية أو نباتية، بل كانت تحمل رموزاً ودلالات مستوحاة من الأساطير والبيئة، مثل: القمر، النجوم، الطائر، الفراشة، وردة عمر الخيام، دعسة القطة، زهرة الزيتون، عاشق ومعشوق وهي الرسمة التي زينت ثوب زفاف ملكة بريطانيا إليزابيت الثانية عام 1947والتي اختارته من البروكار الدمشقي.
البروكار في الذاكرة الشعبية
انعكست مكانة البروكار في الوجدان الشعبي السوري، ليس فقط في الأزياء، بل أيضاً في الأهازيج والأغاني التراثية التي خلدت سحره، كما جاء في إحدى الأغنيات:
يا محيّك حيّك يا محيّك حيّك
بروكار مدهب وخيطانو حيّك
ومن الأغاني الأخرى المتداولة:
حبيبي جبلي جبلي بروكار
حبيبي كارو أحلى كار
جبلي المذهب جبلي المقصّب
بروكار مركب وقلي سهار
قالي للحلوة يا حلوة بروكار
ما أحلى السهرة والقمر بالدار
حبيبي كارو أحلى كار
أُسر دمشقية تحفظ الحرفة
وذكر دبور أن من أشهر المصانع الدمشقية التي حافظت على هذه الصناعة: كسم وقباني، آل البولاد، الرنكوسي. كما لعبت أسر دمشقية عريقة دوراً محورياً في صناعة البروكار، نذكر منها: بولا، رنكوسي، أيوبي، رمضان، كيكي، مارديني، صواف، متيني، شكاكي، الأصيل، الحلبي، لولب، بالإضافة إلى آل النعسان، وأنطون مزنر الذي حاز على الجوائز الأولى في المعارض الدولية عام 1890، ونال لقب “ملك البروكار الدمشقي”.
اختتم دبور محاضرته محذراً من اندثار هذه الصناعة الفريدة، ما لم تُبادر الدولة إلى حماية هذا التراث اللامادي عبر دعم الحرفيين وتوفير بيئة مستدامة لإحيائه.