الثورة – إيمان زرزور:
لم تقتصر آثار الحرب في سوريا منذ عام 2011 على الدمار المادي والسياسي، بل تجاوزت ذلك لتحدث انقلاباً عميقاً في البنية الثقافية والفكرية للمجتمع السوري، خاصة بين فئة الشباب، فقد فرضت ظروف الحرب وما تبعها من نزوح وهجرة وانكشاف ثقافي مفاجئ، حالة من الانفتاح الرقمي العشوائي، أدت إلى تحول اجتماعي واسع ساهم في شيوع محتوى رقمي سطحي وضعيف التأثير المعرفي، بات يشكّل خطراً مباشراً على وعي وهوية الجيل السوري الجديد.
فبالرغم من القيود المشددة التي كانت تفرض على استخدام الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، وكان الوصول إلى الشبكة محدوداً ومحكوماً برقابة أمنية صارمة، فيما كانت وسائل التواصل الاجتماعي شبه معدومة أو محجوبة، لكن حالياً انقلبت المعادلة بشكل جذري، وبات الفضاء التقني مفتوحاً على أكمل أبوابه.
الهجرة الجماعية إلى دول ذات ثقافات مغايرة، والعيش في مجتمعات منفتحة، والابتعاد عن البنية الأسرية والمجتمعية التقليدية، كلها عوامل ساهمت في تفكك الرقابة التربوية والثقافية، ووسّعت الهوة بين الأجيال، وفي ظل انهيار مؤسسات التعليم والدين والإعلام، وجد الشباب أنفسهم في مواجهة مباشرة مع محتوى رقمي غير منضبط، بعيد عن الرقابة أو التوجيه، وغارق في التفاهة والمظاهر الاستهلاكية.
انتشر في البيئة الرقمية السورية، خاصة في أوساط اللاجئين والنازحين، نوع من المحتوى يفتقر إلى أي قيمة علمية أو تربوية أو أخلاقية، محتوى يعتمد على الضحك الساذج، المقالب المفتعلة، تحديات فارغة أو خطيرة، استعراض الترف الزائف، والمشاحنات اللافتة للانتباه، وهكذا بدأ نجوم “الترند” و”التيك توك” يتصدرون واجهة المشهد الثقافي، فيما تراجعت مكانة القدوة الحقيقية، من معلم ومفكر وعالم وفنان ملتزم.
ساهم هذا النمط في تشويه منظومة القيم لدى الشباب، وتعزيز اللامبالاة تجاه القضايا الوطنية، وإضعاف الانتماء والهوية الثقافية، وصولاً إلى تمييع اللغة والتقاليد. كما أدى إلى تراجع القدرة على التفكير النقدي والإبداعي، وكرّس الإدمان الرقمي بوصفه مهرباً من الواقع المرير، لا وسيلة للتفاعل معه أو تغييره.
ومن أبرز الأسباب العميقة لتفشي التفاهة كان ضعف المؤسسات التعليمية والثقافية نتيجة الحرب والنزوح، وغياب الرقابة الإعلامية وانعدام التوجيه الأسري في الغربة، علاوة عن الانفجار الرقمي وسهولة الوصول للمحتوى السيئ دون بدائل تربوية جذابة، والفراغ الفكري والروحي وغياب المرجعيات الثقافية أو الدينية المتوازنة، كل ذلك وفّر بيئة خصبة لانتشار التفاهة، على حساب الإنتاج المعرفي أو الإبداع الفني الجاد. 1
ومن الآثار الكارثية على الوعي، تراجع في القيم والسلوك الفردي، وتصدّر رموزاً لايحملون أي مؤهلات فكرية أو أخلاقية، وتهميش القضايا الوطنية والهوية السورية، وضياع كبير في الوعي الجماعي وتشوش في الانتماء الحضاري.
ولعل مواجهة هذا الخطر تستدعي إجراءات عميقة ومتعددة المستويات منها “تعزيز التربية الإعلامية ضمن المناهج المدرسية والجامعية، وتوفير محتوى بديل وهادف يشجع عليه ويدعمه إعلام الدولة ومنظمات المجتمع، وإبراز نماذج النجاح والقدوة في العلوم والفنون والمجتمع، وتفعيل دور الأسرة والمؤسسات الدينية والثقافية في التوجيه لا المنع فقط.
في ظل التحولات العميقة التي تمر بها سوريا، فإن إعادة الإعمار الحقيقي لا تبدأ بالإسمنت فقط، بل من الوعي والفكر، فالمجتمع الذي لا يوجّه أدواته الثقافية نحو العلم والهوية والقيم، لا يستطيع النهوض من تحت ركام الحرب، ومواجهة التفاهة ليست معركة إعلامية فقط، بل قضية مصيرية لحماية الجيل السوري القادم.

السابق