عمار النعمة:
تُشكّل العلاقة بين الرواية والسينما واحدة من أكثر محاور الفنّ إثارة للنقاش، إذ يلتقي السرد اللغوي بالتجسيد البصري في مساحة مشتركة، هدفها الأساسي نقل التجربة الإنسانية والتعبير عن الواقع، فبينما تُكتب الرواية لتُقرأ وتتفاعل مع خيال القارئ عبر الكلمة، يُنتج الفيلم ليُشاهد ويخاطب الحواس بالصورة والصوت والإيقاع.
ومع تنامي ظاهرة تحويل النصوص الروائية إلى أعمال سينمائية، تزداد التساؤلات حول حدود حرية المخرج، وخصوصية الكاتب، ومدى وفاء الفيلم للنص الأصلي، هذا التفاعل بين الكلمة والصورة لا يخلو من الجدل، لكنه يفتح أفقاً واسعاً للإبداع، يُثري الفنّين معاً ويجعل من العلاقة بينهما مساحةً خصبة للدراسة والتحليل.
رواية تُقرأ وفيلم يُشاهد
تمتاز الرواية بقدرتها على الغوص في الأعماق النفسية، والتحليل الداخلي، واستحضار التفاصيل الدقيقة، فيما تستند السينما إلى الاختزال البصري والتكثيف الدرامي بما يتناسب مع زمن العرض وشروط الصورة، هذا الاختلاف لا يعني التضاد، بل يعكس خصوصية كل فنّ، ويجعل من تحويل الرواية إلى فيلم عملية إعادة خلق، تتطلب مهارة في الحفاظ على الجوهر مع تغيّر الوسيط.
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تنجح السينما دائماً في تجسيد روح الرواية دون أن تُفرغها من مضمونها؟
الجواب يختلف تبعاً لحساسية المخرج، وبراعته في تقديم معالجة سينمائية تُنصف النص ولا تستغلّه.
من الورق إلى الشاشة
شهدت السينما العالمية تجارب ناجحة انطلقت من نصوص روائية خالدة، من “هاري بوتر” التي خطفت خيال الأطفال والكبار، إلى “صاحب الظل الطويل”، و”غاتسبي العظيم”، و”زوربا اليوناني”، وصولاً إلى أفلام مأخوذة عن أعمال ستيفن كينغ، استطاعت هذه الاقتباسات أن تحفر مكانتها في ذاكرة المشاهدين.
عربياً، تحوّلت روايات نجيب محفوظ، مثل “اللص والكلاب” و”الكرنك”، إلى أفلام تركت أثراً واضحاً في تاريخ السينما المصرية، وفي سوريا، نذكر أعمالاً سينمائية اعتمدت على نصوص أدبية، منها “حراس الصمت” لسمير ذكرى، عن رواية لغادة السمان، وفيلم “حسيبة” لريمون بطرس، إضافة إلى أفلام مثل “شيء ما يحترق” و”الطحين الأسود” التي كتبها وأخرجها المخرج نفسه.
التوتر الخلّاق:
بين المخرج والكاتب توفيق الحكيم، في كتابه “الفن والأدب” 1952، وصف العلاقة بين الكاتب والمخرج بأنها غير متكافئة، معتبراً أن السينما تُخضع النص لإرادة المخرج، الذي يطبع العمل بطابعه الخاص، وهذه النظرة النقدية لا تزال قائمة إلى اليوم، خاصة حين يُفرّغ النص من أبعاده الفكرية لصالح التشويق أو الصورة.
في المقابل، هناك مخرجون تعاملوا مع الرواية بحساسية عالية، فاحترموا بنيتها، واشتغلوا على تحويلها إلى فيلم دون انتقاص من قيمتها الأدبية، وفي هذا السياق، يظهر دور كاتب السيناريو كجسر إبداعي بين النص والعدسة، قادر على تحويل اللغة إلى صورة دون تشويه. لكن في الآونة الأخيرة، بات بعض الروائيين يكتبون أعمالهم بنَفَس سينمائي مسبق، وكأن الرواية مشروع فيلم منذ البداية، هذا التوجه وإن كان مغرياً من ناحية الانتشار، إلا أنه يُهدد بنية الرواية الأدبية ويُفقدها عمقها التخيّلي واللغوي، فالرواية ليست سيناريو، والكتابة لا ينبغي أن تخضع لإغراء الكاميرا على حساب القيمة الجمالية للنص.
نحو سينما سورية
من رحم الرواية مع دخول السينما السورية مرحلة جديدة من النهوض، يُطرح السؤال المشروع: هل آن الأوان لنرى روايات سورية معاصرة تُجسَّد على الشاشة؟ روايات تحاكي التحوّلات الاجتماعية والإنسانية التي عرفها المجتمع السوري، وتُقدَّم برؤية بصرية راقية تحترم النص وتُلامس وجدان الجمهور.
إن ما تحتاجه السينما اليوم هو جسور جديدة بين الأدب والصورة، تقوم على الاحترام المتبادل، والإيمان بأن كل فن له لغته، لكن الإنسان هو جوهرهما المشترك، فحين يلتقي العمق الأدبي بحرفية الصورة، يمكن أن تولد أعمال خالدة تُعيد الاعتبار للرواية، وتُعيد للسينما دورها بوصفها فناً جامعاً بين الحكاية والتأثير.
ربما آن الأوان لأن نمنح النصوص الروائية السورية الفرصة لقول كلمتها على الشاشة، وتقديم صورة بصرية لا تقل عمقاً عن لغتها الأدبية.