الثورة- حسين صقر:
غالباً مايكون إسعاد الآخرين كلمة طيبة ندية تنساب إلى الذاكرة كسلسبيل عذب، وتتربع على عرش القلب كحاكم رحيم، فصناعة السعادة لاتحتاج إلى أموال الأغنياء وتفاخرهم بها، ولا لاعتدادهم بأنفسهم بأنهم الأوائل دائماً في كل شيء، فهناك من يسحب البساط من تحتهم دون عناء، ورأسماله فقط كلمة لطيفة من عدة حروف.
اصنعوا السعادة واهدوها لمن تحبون، لأنها تأتي على هيئة موقف يجبر خاطر من حولنا، لحيث من سار بين الناس جابراً للخواطر أدركته مشيئة الله ولو كان في جوف المخاطر.
ما دعا لهذه المقدمة موقفان، الأول قراءتي لمادة بسيطة السرد عميقة المعنى، وهي باختصار أن مريضين كانا في غرفة واحدة في أحد المشافي، سرير أحدهما بجانب النافذة، والثاني بجانب الجدار الموازي، وكان من يرقد على سرير النافذة يوصف كل يوم للمريض الآخر حركة الناس في الخارج، وكيف أن هناك حديقة في المشفى وضمنها بحيرة ماء ويحيط بها الشجر من كل جانب، وهناك بطات تسبح، وشاب وفتاة يتسامران على جانبي البحيرة، وحركة الشارع المجاور لسور المشفى وهكذا من الكلام الجميل كل يوم والوصف الرائع، حتى جاء ذلك اليوم الذي توفي فيه ذلك المريض صاحب الوصف، وحزن عليه جاره، وبعد أيام طلب الانتقال إلى سريره، ليفاجأ بأن النافذة تطل على ممر صغير وضيق فقط، وليس هناك أي حديقة أو بحيرة أو فتيات وبط ولا أشجار أو زهور، وعندها نادى على الممرضة ليسألها عن كل تلك الصور، قالت له إن المريض المتوفى كان كفيفاً ولا يرى ولكنه أراد إدخال السعادة لقلبك بعد أن شعر بأنك وحيد ولا أحداً يعودك أو يطمئن عليك، فأراد كسر جدار عزلتك بتلك الأحاديث اليومية ووصف الخارج الذي لا يراه هو أصلاً، لأن الكلمة الطيبة نسمة هواء نقية، أراد مداعبة وجهك الحزين فيها.
أما الموقف الثاني زيارتي وصديق محبب إلى قلبي لأحد كبار السن من أقاربنا، عندما ذهبنا للاطمئنان عن صحته وحاله وأحواله، وكيف كان مسروراُ هو وعائلته وأبناؤه بلقائنا، وكذلك نحن، وانهال علينا بكلماته العميقة مشجعاً إيانا على جبر خواطر الآخرين، وعاد به شريط ذاكرته إلى أيام الخير عندما كان يتمنى الشخص لغيره من جار أو صديق أو زميل عمل مايتمناه لنفسه، وكيف كان الناس يتعاونون على الأعمال المجهدة لتذليل الصعاب، وكيف كانوا ينقلون الجسور الخشبية لوضعها لأسقف المنازل، حملاً على الأكتاف من مسافات بعيدة من الوادي المجاور للقرية، وكيف كانوا يتعاونون على صبِّ ذلك السقف، وأيام الحصاد وجرش القمح والشعير وتنقيته، وكيف كانوا يختمون نهارهم بالمواويل والغناء والدبكة وتناول الغداء والحلويات التي كانت عبارة عن حبات ذرة مسلوقة ومغطسة بدبس العنب، تسمى “العيوق”وترتبط بأغنية ” بدي الأسمر العيوق ليقلي الطريق منين” وإلى آخر الأغنية، والكثير من القصص التي افتقدنا رونق وجودها في أيامنا تلك وانشغال الناس عن بعضهم بمعيشتهم وهمومهم ومعاناتهم الأخرى.
فحديث العم الدافىء، أيقظ من جديد قيمة الكلمة الطيبة، لأنها قد تأتي دعوة جميلة من القلب، وتبادل للمشاعر اللطيفة، ليبقى السؤال لماذا لا نعوّد أنفسنا على الفرحة حتى تعتاد هي علينا، ولماذا لا نشعرها بالأمل، حتى نجد الدُنيا بين أيدينا مطوعة كما نشاء، لايحكمها المال ولا المصالح، ولا اعتداد أصحاب النفوس الضعيفة بأنفسهم على غير سبب.
معاً لننثر السعادة في قلوب الآخرين، فقد تثمر محبة واحتراماً،
ولننثر بعض بذورها في لقاءاتنا، فيفوح شذاها مالئاً الأماكن.
فلكل نعمةٍ زكاة.. وزكاة السعادة محبة الآخرين، وكما قال الشاعر أبو الفتح البستي، والذي اشتهر بنظم القصائد الطويلة التي تتحدث عن أحوال الدنيا وتقلبات الدهر في أبياتٍ تتصف بالبداعة والمعاني العميقة، واحتوائها على نصائح وعبر لبني الإنسان:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم..فطالما استعبد الإنسان إحسانا..
والإحسان هنا بالكلمة الطيبة والمواقف التي تجبر الخاطر ، لأن الكلمة اللطيفة صدقة، ما خلا طبعاً بعض المواقف التي تتطلب الحزم والرد لأنها تساعد الشخص على التراجع عن مواقفه القاسية وأرائه المتعنتة.