الثورة: مازن جلال خيربك:
لا يختلف اثنان على متانة المصارف العامة السورية المملوكة للدولة بشكل كامل، وهي متانة أثبتتها الظروف القاسية التي لم تمر بها مصارف في دولة من دول العالم، فإلى جانب السحوبات المفاجئة التي تعرضت لها المصارف، جوبهت بأقسى أنواع الحظر سواء لجهة حظر ومنع التعامل معها، أم لجهة حظر حصولها على التقنيات التي تحتاجها كما كل مصارف العالم، الأمر الذي خلق أمامها تحديات لم تكن في الحسبان ولم تختبر شبيهاً لها من قبل.
ذلك كله لم يتمكن من تحقيق انهيار القطاع الذي بقي صامداً لسنوات، ولعل ثقة المواطن بالمصارف العامة لعبت دوراً فعّالاً في استمرار المصارف السورية، إلى جانب السيولة الكثيفة التي تمتعت بها لعقود، وما زالت حتى اليوم قادرة على استقطاب الودائع، لتصل مؤخرا إلى معدلات عالية جداً من السيولة التي بلغت في بعضها آلاف المليارات من الليرات السورية، وهي ناحية يمكن أن تكون سلبية التأثير كما هي إيجابية.
وإن كانت الإيجابيات تتمحور حول قوة المصرف ومتانة موقعه المالي وثقة جمهور الزبائن والمتعاملين به، إلا أن الآثار السلبية لا تقف عند حد، بل هي تراكمية تمتد عبر سنوات لتصل بالمصرف في النهاية إلى مرحلة تبدأ فيها الخسائر بالتراكم على حساب الأرباح، وصولاً إلى ميزان خاسر تماماً تسوده الخسائر والذمم لصالح المودعين لدى المصرف.
وبنظرة دقيقة للأمور يمكن القول إن الودائع تستلزم بموجب أنظمة العمليات أنواعاً مختلفة من الفوائد ولاسيما أن أساس الفائدة يقوم على أن المصرف سيوظف أجزاء من سيولته في المشاريع المختلفة والقروض المتنوعة التي يمولها، وبالتالي يحق للمودع الحصول على فائدة مجزية كتعويض عن فترة تجميد سيولته لدى المصرف الذي قام بتوظيفها، وذلك على شكل اتفاق ضمني غير مكتوب، ولدى عزوف المصرف عن التوظيف أو عدم قدرته على ذلك نتيجة القرارات الملزمة له، يكون وبالأخص ذو السيولة العالية أمام مشكلة عويصة تبدأ بتلبية الفوائد من حساب أرباحه، وتتفاقم كرة الثلج لتصل إلى مرحلة يكون فيها المصرف مسدداً لا محصّلاً من الزبائن، بالنظر إلى أنه لا يحقق أي عائدات من السيولة بل يقتصر عمله معها على احتساب الفوائد المستحقة للزبائن ودفعها لهم، في وقت يتعاظم فيه خطر السيولة المتراكمة على المصرف عند تعدد الحسابات الصغيرة في شريحة التوفير أو ودائع الأجل كونها تلزمه بدفع الفوائد، في حين أن استحقاق الفائدة في ودائع التوفير والآجال تقف عند حد معين ولا تتجاوزه مهما كان مبلغ الوديعة.
هذه المخاطر المحيطة بالمصارف التي لا توظف سيولتها في القنوات التسليفية الآمنة أو منخفضة المخاطرة، يمكن لها أن تطيح بالمصرف على المدى البعيد، وعليه يكون الحل الوحيد هو المباشرة بتوظف الأموال المتراكمة لديه في مشاريع استثمارية أو إنتاجية لصالح المتمولين منه، كما يمكن والحال كذلك مباشرة المصرف الاستحواذ على فرص استثمارية صناعية أم تجارية تتاح له، وهي حالة تتضح وتكون فرصها في النجاح والاستمرار أكبر، عندما تكون إحدى الشركات أو المصانع في حالة وفرة وقوة في السوق وتحتاج للتوسع حتى تتمكن من استمرار سيطرتها على عمل ما، فتكون الفرصة متاحة أمام المصرف لتمويل التوسع والدخول كشريك في العمل لضمان التدفقات النقدية، وعدم انتظار نجاح العمل أو المشروع للحصول على العوائد الأولى التي تغطي ما موّله في عملية التوسع، لكون السيولة بالدرجة الأولى هي أموال مودعين طبيعيين أو اعتباريين وليست بكاملها مملوكة للمصرف، وذلك حتى يتمكن من تلبية السحوبات حال طلبها ومهما كان حجمها.
الفرصة متاحة ومجالات العمل ممكنة التمويل لا تُعد ولا تُحصى، والسلع المطلوبة في السوق أكثر من أن تُحصى، وفي نفس الوقت ارتفعت السيولة لدى المصارف بمعدلات أعلى من وقت مضى في تاريخها، ما يجعل من اقتناص الفرصة والمباشرة بتحديد فئات بعينها من عمليات التمويل ضرورة في الفترة الحالية، لتلبية احتياجات السوق وبناء قطاعات أشد ضرورة من غيرها بالتوازي مع خلق قنوات تسليفية متدنية المخاطر لتوظيف سيولة المصارف الأمر الذي يجعل الحلقة تكمل إغلاقها على مفرداتها لتعود الكرّة من جديد في قطاعات أخرى.