الثورة – أديب مخزوم:
التركيز على الأقمشة التي تتميز بعفوية رسوماتها وألوانها، يمثل الاهتمام الأكبر لدى خبراء الأزياء العالمية، بعد أن دخلت التشكيلات التجريدية بألوانها الغنية، في قطع الملابس، حيث تبدو الموديلات الحديثة بخطوطها وبألوانها، كأنها لوحات فنية تشكيلية مقتطفة من جميع مدارس الفن الحديث، بدءاً بالرسم الواقعي والتعبيري، ووصولاً إلى أقصى حالات التجريد اللوني العفوي والتلقائي.
وإذا كانت البنى التشكيلية التجريدية قد لعبت دوراً هاماً في أزياء الأمس، فهي لم تأت بهذه الجرأة التي نجدها في أزياء اليوم، حيث أصبحت تلقائية الألوان وصراحتها عنصراً أساسياً من عناصر الموضة الحديثة، التي وصلت إلينا من عواصم الموضة والأناقة والفن.
فالأزياء الحديثة تتألف في أحيان كثيرة من مساحات لونية صارخة تتبادل وتتداخل بتلقائية تقترب من التجريد العبثي، حيث نرى مجموعة من الحركات أو البقع اللونية المرسومة بفرشاة عريضة والتي تذكرنا بلوحات كبار فناني الحداثة التشكيلية من أمثال: هارتونغ وتوبي ودوبوفيه وشنيدر ودي ستايل ومانيسييه وبنيون وبيسيير وغيرهم.
والأزياء الحديثة كما تعامل معها “إيف سان لوران” تشكل عودة إلى ملامح اللباس الشرقي المنسي والمعرض للاندثار، وهي تبدو بمثابة رحلة في عوالم ورؤى فنية عالمية حديثة، على أساس أن الرسم الحديث في علاقته الوطيدة بخطوط الموضة، كان يحقق مصدر الإلهام الفني لديه، ولاسيما أن رسومات الأقمشة التي كان يفضلها بدت بمثابة رسم تجريدي وتشكيل حديث، استحوذ على إعجاب العديد من كبار الفنانين والنقاد العالميين.
وهكذا تبدو معطيات الفن التشكيلي الحديث غير منفصلة عن جزئيات حياتنا اليومية، وبالتالي فهي في حوار دائم ومفتوح مع الناس، ليس من خلال اللباس وخطوط الموضة فحسب، وإنما أيضاً من خلال إضفاء لمسات فنية جمالية على أبنية المدن، وفي ساحاتها وشوارعها وحدائقها وواحاتها، وهو ما يطلق عليه في الغرب بفن ( تلوين المدن) وأيضاً عبر دخولها في ألوان الستائر وكامل أثاث المنزل والمكتب وكل شيء يحيط بنا.
وهذه الإشارات تؤكد أهمية الشروع بتأسيس ثقافة تشكيلية تدخل مجالات الحياة كافة، وتتواصل حتى مع معطيات التيارات الأوروبية المتطرفة، في خطوات الوصول الى أزياء مفرطة في حداثتها، وتؤسس لانطلاقة جديدة لمستقبل الأزياء العالمية الحديثة والمعاصرة.
فالعمل الفني التشكيلي الإبداعي الحديث، ليس مجرد تسلية وتمضية أوقات فراغ، كما يعتقد البعض، وإنما هو رحلة أو نزهة اكتشاف يومية، هدفها الأساسي استقطاب الجمهور الراقي، وتغذية حساسيته البصرية والروحية والمعرفية، ونقله إلى واحات الجمال والثقافة والتذوق الجمالي الفعلي، والمساهمة بإظهار عناصر السحر التشكيلي، على كل العناصر، التي تقع ضمن الدائرة الحياتية العامة وفي مقدمتها الأزياء.
والفنان التشكيلي على هذا الأساس يبدو صاحب رسالة إنسانية وحضارية مضاعفة، سلاحها لغة الخط واللون في اللوحة، تلك العناصر الجمالية القادرة على الدخول في وسائل الاستعمال اليومية، ومنح كل ما يقع في مجالات الحياة عناصر متجددة، ومتحررة من الجمود والرتابة والترداد الرتيب.
ومن خلال استشفاف آفاق رحاب هذه العلاقة المتبادلة والمتداخلة، بين أزياء الموضة العالمية وبين معطات الفن الحديث، نكتشف بسهولة مدى قصور الاطلاع، حتى عند العديد من العاملين في المجال الإعلامي والثقافي، الذين لا يزالون يطلقون الأحكام التعميمية الجاهزة على الفن التشكيلي، دون تمييز أو تفريق بين اللوحة المتماهية مع ألوان الموضة والمطلوبة جماهيرياً، وبين اللوحة التجريدية النخبوية المحصورة ضمن إطار المتذوقين والمتابعين.
ورغم أن هذه القراءة تقدم الدليل القاطع بأن الناس تتفاعل وتعجب بكل المدارس الفنية الحديثة المجسدة على الأقمشة وغيرها، علاوة على أن علاقة الناس باللوحة ليست بهذا السوء الذي يصوره البعض.
أتساءل: أليس من الأفضل الاعتراف بوجود جمهور عريض لألوان الموضة وللفن الواقعي والانطباعي وغير ذلك، بدلاً من السعي وراء الشعارات الجاهزة والفارغة.
كلمة يجب أن تقال: عندما ينظر الناس عندنا إلى اللوحة التجريدية كما ينظرون إلى الأشياء التي تدخل في حياتهم اليومية، والقائمة في أحيان كثيرة على إبداعات الفنانين التشكيليين، فإن تعقيداتهم تجاه الفن التجريدي الحديث سوف تتفكك وتزول، وسوف يستشفون جمالية اللوحة التجريدية، ويكتشفون أبعادها الجمالية والروحية والتعبيرية والفكرية.