استلاب لغوي وفكري

الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:

في هذا العالم الافتراضي قد لا تتعدى صداقتنا مجرد كلمات على منشور ما.. صار لدينا جيل الكلمة, والشفاه الصامتة, والأصابع المتقافزة بخفة على لوحة ضمت لبنات الأبجدية .. تراهم منكبون خلف أجهزتهم الرقمية يكتبون في صمت ويعبرون عما يجول في صدورهم دون خوف, ويقررون ما سيعرفه العالم عنهم دون وجل.. بيتدعون ويبدعون لغة الكتابة والتعبير أو بالأحرى لغات الكتابة من دون أن يلتفتوا وراءهم ليسألوا إن كانت لائقة أو ضاربة عرض الحائط بقواعد اللغة وأسس الضاد.
« دروري دروري يا ألبي شوفك مدايقة انا بالحديئة» للوهلة الأولى ظننتها تعويذة أو طلاسم لأحد المشعوذين.. ولكن فهمتها بعد أن أعدت لفظها شفهياً.. على الرغم أن لغة الضاد, التي عُرفت بهذا الحرف لتفردها به دون اللغات الأخرى, و ازدهرت كثيراً بانتشار عدد مستخدميها الذين غزوا أثير مواقع التواصل الاجتماعي عربياً, فإنها تشهد هذه الآونة ما لم تشهده طيلة تاريخها منذ نشأتها قبل آلاف السنين من حيث مرورها بمراحل تطور وتغييرات عدة, ما بين إضافات واندثارات وتأثرات وتأثيرات ومراحل ضعف وقوة, وأخيراً لمرحلة اللغة العربية في نسختها الفريدة على مواقع التواصل الاجتماعي.. خلال مداولاتنا الحديث عن استخدام هذه اللغة المحكية, لا ترى سيدة ال ( دروري ) والتي كانت تمر في ( ديق ) اي غرابة أو رهابة أو حتى طرافة فيما تكتبه, وهي تكتب ما تعرف, ولا تفكر مرتين قبل أن تقفز أصبعها على اللوحة, كما ولم يحدث أن طرأ على بالها يوماً أن ما تكتبه يعتبر كارثياً أو تراجيدياً أو حتى كوميدياً.
بيد أن هذه الكوميديا تتحول إلى عبث يضاهي عبث صموئيل بيكت في انتظار « غودو « الذي لم يصل أبداً, أو يوجين يونسكو في طرحه لتفاهة الوجود الانساني.. حيث ومن متابعاتنا اليومية لتدوينات « فيسبوك» وتغريدات « تويتر « وكلمات « انستغرام « المعدودة, نعرف أنها في الأصل لغة عربية, لكن ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي والغزو الشبابي وغير الشبابي الجارف لها, والاتفاق الضمني بين رواده على أن لا حياء في الكتابة كما تنطق, ولا غبار على من ضرب عرض الحائط بقواعد اللغة وبديهيات الإملاء وما يحدث على أثير العنكبوتي يظل حبيس خيوطه.
تلك الخيوط صارت تفضح نفسها بنفسها, مثلما تفرض طبيعة الانتشار السريع دون أي اجراء احترازي أو اذن مسبق, فيكتب أحدهم تدوينة أو تغريدة أو كلمات مصاحبة لصورة فيتبادلها المئات ويتشاركها الآلاف وربما الملايين.. وقبل هذا الانتشار الواسع كان يكتفي رواد المنصات على تبادل فيديوهات غريبة أو أحداث فظيعة التقطها أحدهم على هاتفه, أو مقال مهم في جريدة أو مجلة أو فضيحة مجلجلة.. مثلاً صورة ورقة امتحان فيها أخطاء لغوية فادحة, أو ورقة إجابة يفضح محتواها مستوى الطالب غير النجيب, أو فيديو مسؤول يتحدث بلغة ركيكة أو يتلجلج بطريقة عجيبة.. بيد أنه في هذه الأيام لم يكتف الرواد بالتعليق والمشاركة بل اتجهوا إلى الإنتاج ولم يعد الإنتاج مقتصراً على الكتابة بلغة معينة, بل أصبح متاحاً بلغات بعضها معروف والآخر مجهول.. بعدما هبت غوغل لنجدة المحتاج العنكبوتي, فأدخلت لغة هي خليط من العربية والانكليزية, وكانت أحد الحلول الجزئية على عدم إتاحة لوحات مفاتيح داعمة للغة العربية, وبالمقابل دعوا إلى الاعتماد على اللغة العربية الصحيحة.. اطلقوا على هذه اللغة اسم ( عربيزي ) وهي تتيح للمستخدم إمكانية إدخال النص بأي لغة من اللغات على لوحة المفاتيح اللاتينية بالطريقة التي ينطقها ويحولها غوغل إلى النص الأصلي باللغة المرادة.
واختصم القوم من جراء « عربيزي « بين مهلل لها تحل مشكلة غياب الإمكانيات التقنية العربية والإمكانيات اللغوية البشرية. والثانية جمعت اللغويين وعلت أصواتهم وملأت الفضائيات الإعلامية والأكاديمية والدينية تتحدث عن قرب اختفاء اللغة العربية وضياع الهوية أمام هذه الهجمة الغربية.
وكل هذا الجدال والأصوات العالية لم يعرها مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي بالاً .. واظبوا على استخدام مفاتيح اللوحة تتقافز أصابعهم عليها يتصلون ويتواصلون .. لا يعيرون انتباهاً إلى السخرية من أخطائهم العربية ولا تثبط من عزيمتهم العنكبوتية العربية منزوعة القواعد أو حماستهم التواصلية البعيدة عن الصرف والنحو كل الابتعاد.
حتى باتوا ينزعون إلى خلْق دائرة لغوية مغلقة للتواصل الاجتماعي فيما بينهم، مما يجعل من الصعب على الأجيال الأكبر سناً التواصل معهم، في ظاهرة يمكن أن نجد لها مثالاً مشابهاً في الولايات المتحدة فيما يعرف بـ «لغة الجامعة»، إذ يبتكر طلاب الجامعات هناك آلاف الكلمات والاختصارات سنوياً داخل دوائر التواصل فيما بينهم.
ونعود بالذاكرة هنا إلى القرن الماضي حينما هب الغيارى على لغة الضاد وأطلقوا تحذيرات عند ظهور الصحافة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر لأول مرة، وتنبيههم إلى انحدارها إلى مستويات متدنية.. وتعالت صيحات الأدباء والكتاب بضرورة الحرص على صحة اللغة العربية وسلامتها.
وظهرت عدة كتب تعنى بما اصطلح عليه لغة الجرائد، لتصحح الخطأ وتقوّم المعوج من أساليب الكتابة، وتردّ الاعتبار للغة العربية.. وتم تكليف أدباء كبار ولغويين لتحرير المقالات وتصحيح المعروض على النشر، وكان عليهم ابتكار لغة وسيطة، سميت ب»اللغة السيّارة» نسبة للصحف السيّارة التي ظهرت وقتها.
لكن حالة الاستلاب التي يعيشها الإنسان العربي في ظل أوضاع عامة متردية, وهيمنة ثقافية عابرة للحدود, كسحت كل التحصينات أدت إلى ضعف اللغة العربية، وهيمنة اللهجات العامية، وأصبحت اللغة العربية عند الكثيرين من الناس هي لغة الإعلام، والصحافة اليومية.
واليوم وفي ظل الاستخدام الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي وإزالة الحدود بين مستخدميه، صارت الكتابة اليومية فيها، وما يشاع في المواقع الشخصية والمدونات على شبكة الإنترنت، والتواصل الاجتماعي هي اللغة العربية السائدة. شئنا أم أبينا.. !

العدد 1106 – 9- 8-2022

آخر الأخبار
مخبز بلدة السهوة.. أعطاله متكررة والخبز السياحي يرهق الأهالي عودة الحركة السياحية إلى بصرى الشام خبير اقتصادي لـ"الثورة": "الذهنية العائلية" و"عدم التكافؤ" تواجه الشركات المساهمة اشتباكات حدودية وتهديدات متبادلة بين الهند وباكستان الرئيس الشرع يلتقي وزير الزراعة الشيباني أمام مجلس الأمن: رفع العقوبات يسهم بتحويل سوريا إلى شريك قوي في السلام والازدهار والاقتصاد ... "الصحة العالمية" تدعم القطاع الصحي في طرطوس طرطوس.. نشاط فني توعوي لمركز الميناء الصحي  صناعتنا المهاجرة خسارة كبيرة.. هل تعود الأدمغة والخبرات؟ ترجيحات بزيادة الإمدادات.. وأسعار النفط العالمية تتجه لتسجيل خسارة تركيا: الاتفاق على إنشاء مركز عمليات مشترك مع سوريا "موزاييك الصحي المجتمعي" يقدم خدماته في جبلة تأهيل طريق جاسم - دير العدس "بسمة وطن" يدعم أطفال جلين المصابين بالسرطان اللاذقية: اجتماع لمواجهة قطع الأشجار الحراجية بجبل التركمان درعا.. ضبط 10 مخابز مخالفة تربية طرطوس تبحث التعليمات الخاصة بامتحانات دورة ٢٠٢٥ مُنتَج طبي اقتصادي يبحث عن اعتراف سوريا أمام استثمارات واعدة.. هل تتاح الفرص الحقيقية للمستثمرين؟ دعم أوروبي لخطة ترامب للسلام بين روسيا وأوكرانيا