من أخبار ما يسمى (الميديا) أو الإعلام الإلكتروني الذي يبث أخباره لحظياً بدأ يتشكل وجه جديد للعالم تتجاذبه الآراء المتناقضة من كل اتجاه، وهي تشكل في الوقت ذاته رأياً عاماً يسود في المجتمعات على أرض الواقع كما على شبكة المعلومات التي لا توفر حدثاً إلا وتأتي بالأخبار عنه في تأكيدٍ له، أو نفي، لا يهم.. المهم أن سيلاً لا يتوقف يظل متدفقاً، وبغزارة ليغذي أي رأي، أو خبر عن حدث ما.
مزاج عام، أو اهتمام عام، يبرز إلى العلن من خلال مَنْ يدوّن، ومَنْ يهتم، ومَنْ لا يمل من متابعة كل ما تحفل به الصفحات.. فلو أن موجة من هوس التجميل، والذي لم يعد حكراً على إناث هذا الزمان بل وصل إلى الذكور أيضاً، أقول فلو أن موجة من حديث ما يجود به طب التجميل سرت بين بعض الناس لوجدتها بسرعة البرق تحولت إلى تسونامي تجميلي تضج به المواقع الإلكترونية، وما يتبعها من أحاديث بين الناس.. وكذلك لو أعلن فنان ما على قدر من الشهرة والجماهيرية عن جديده، وأتاح لمحبيه أن يشاهدوا هذا الجديد عبر المواقع التي تبث الأفلام، والأغاني، والرقصات، لوجدت المشاهدات يتسارع عدّاد أرقامها خلال وقت قياسي ليصل إلى الملايين، حتى ولو كان ذلك المنتج الفني دون طعم، أو لون.. مما يجعلك تستغرب تلك الأرقام المتنامية من المشاهدة، وهي بالتالي وكأنها تعلن كلما تزايدت بأن الفن مازال بخير، بل لم يصبه بعد أي عطب خاصة إذا ما قورن بما مضى من فن العصر الجميل الذي كان الأداء يتكامل فيه مع باقي عناصر نجاح الأغنية مثلاً، أو (الأوبريت) من كلمة راقية، ولحن متميز، وصوت يُجمع النقّاد على جماله.. وقِس على هذا المنوال من الأمثلة ما لا يحصى من مثيلاتها.
وها نحن أصبحنا نجد أنفسنا فجأة أمام مقاييس جديدة للفن، ومثلها للأدب الذي بات يتمرد على حدود الأجناس الأدبية بين قصة، ومقالة، وخاطرة، ورواية، وشعر، لتتداخل هذه الأجناس فيما بينها فلا يعرف المرء في المحصلة ماذا يقرأ وهو يقلّب في صفحات جمعت إليها زهور كل بساتين الكلمة المقروءة بحجة الحداثة، والتغيير، والتمرد على القوالب الثابتة.
واللغة.. هذه التي نتحدث بها، ونعتبرها هوية لنا نتميز بها، وهي تنطق عن تاريخنا، وتراثنا، وثقافتنا المتجذرة فينا ماذا اقترفناه بحقها عندما أزحناها عن مكانتها في الإعلام المرئي والمسموع لنستبدل الفصحى منها بالعامية حتى كدنا ننسى قواعد اللغة السليمة نطقاً وكتابة.. والتيار يسري بقوة جارفاً معه كل مَنْ ينطق، أو يكتب.
وحديث الناس في الزيارات العائلية أو بين الأصدقاء يكاد لا يختلف عن بعض البرامج التلفزيونية، أو الإذاعية التي تخرج إلينا بحجة قربها من واقع المُشاهد، وما يريد أن يسمع عنه، أو أن يراه.
وإذا كان المأكل، والملبس يعبّر عن ثقافة شعب من الشعوب فإن كل جديد يدخل إليه يجعله أكثر تطوراً، وتماشياً مع عصره، إلا أن من الجديد الذي يدخل دون دراسة، أو دراية ما يزيح عنصراً من عناصر هذه الثقافة ليحل محله.
وماذا بعد؟.. هناك الكثير مما هو حديث، أو مستحدث يدخل إلى الثقافات على تنوعها شرقاً وغرباً ليس لتتمازج فيما بينها بل لتشكل كل واحدة منها لنفسها وجهاً جديداً يكاد يطمس وجهها الحقيقي، وليغدو كل الناس في كل المجتمعات بملامح متشابهة تكاد لا تجعل المرء يفرّق بين هذا وذاك.
و(الميديا) تنتعش أكثر وأكثر بما تغذيه، وبما تستقطبه إليها من أفكار، وأخبار تذيعها على العالم الذي يسير في ركبها غير عابئ بملامحه إذا ما تغيرت، وتبدلت، أو ظهرت فوقها الندوب التي لن تستطيع عمليات التجميل فيما بعد أن تزيلها.
* * *