الثورة – بشار الحجلي:
تطالعنا الحياة بما فيها من تناقضات، بالكثير من الصور، والقصص، والحكايا، التي تمثل دروساً قيّمة للجيل الجديد، اللاهث وراء سطوة المال، على ما فيها من بريق، يسيل له لعاب من عاشوا أيام الفقر، وقاسوا مرارة الأيام، واكتووا بنيران العوز والحاجة.
هذه الصور، التي تبدو أكثر إيلاماً في عيونهم، وهم يشاهدون ظلم المجتمع، وتعامل المنافقين، الذين أتقنوا فنون الكذب، والانحناء، وتقبيل أيدي أصحاب الجاه والثروة، دون أي اعتبار لمصادرها، فيما كانت مشروعة، أم غير شرعية، وشاهدوا كيف ينصرف الناس، عمّن لا يملكون المال، والثروات، أو من فقدها، حيث لا يسمع لهم رأي، ولا يقبل لهم مجرد الحضور في جلسات نفاقهم.
هنا يختلف الناس، وأصحاب الرأي في تعريف الفقير، فهو عند الكثيرين من لا عقل له، ولا عزوة، أو سند.
ويقع في نهاية القائمة، فقير المال، لأن الإنسان قيمةٌ كبرى، هي من تصنع الثروة، وليس العكس.
أمام ذلك يمكن أن نطرح السؤال: ماذا يعني أن تكون ثرياً؟ وهل ينجح المال في جعلك رجلاً ناجحاً يحظى باحترام الناس وتقديرهم؟
وكيف تستوي الأمور، بينما يعتقد الكثير ممن يفتقدون الثروة، أن امتلاك المال يفتح أمامك كل الأبواب المغلقة، وبواسطته، يمكنك أن تشتري ما تريد وترغب.
هذا الاعتقاد غير صحيح بالضرورة، فمهما حجزت لك مقعداً بين الأثرياء، وبات ما لديك من ثروة أكثر من تقدير أرقامها ببساطة، فأنت، وفي قرارة نفسك، تدرك أن هذا كله ليس نهاية المطاف، فثمة ما يصعب عليك تحقيقه بالثروة والمال، خاصة عندما تدرك أن الحياة ليست لك وحدك، ولا تستطيع التحكم بكل ما ترغب، وتحديداً عندما يتعلق الأمر بما لا طاقة لك ولمالك، على تحقيقه.
فالثروة يمكنها أن تجمع حولك جيشاً من الناس، لكنها وحدها لا تجبرهم على محبتك، واحترامك، وإن تسابقوا لإظهارها عند حضورك، وحضور مصلحتهم معك، فكم صدم أصحاب الثراء، بمن كانوا حولهم عند ضياع ما كان بيدهم، أو عند تبدل الحال، بسبب خسارات لم تكن محسوبة، وحالات طارئة، أو قاهرة، أقوى من أصحابها.
ما يقال عن ثروة المال ينطبق على أصحاب المناصب على تدرجها، ومعظمنا يذكر قصة الملك الذي أراد اختبار ولاء حاشيته، فنزل الشارع متنكراً، بزي رجل مشرد بائس، فقادته رحلته أن يتبع جموعاً تسير لوليمة كبيرة، وعندما همّ بالدخول، طرده الحراس خارجاً، وألقوا له ببعض فضلات الطعام.
غادر الملك المتنكر المكان، ليعود إليه بموكبٍ مهيب، فاقترب من الوليمة، ورفع كمّ ردائه الملكي، ودسّه في الطعام صارخاً: “كل أيها الثوب فكلّ هذا التكريم لك” في إشارة واضحة لحجم النفاق والدجل الذي صادف اجتماعهما في تلك الطبقة الحاضرة من أعيان المملكة، وكان في دواخله الكثير من الأسئلة، حول مكانة الإنسان في هذا العالم، وجدوى كل ما يفعله، ليجمع ثروة يتركها لغيره، عند حلول الأجل المحتوم، حيث لا تنفع ثروة، ولا جاه.
هذه الحقيقة معناها، أن يترافق امتلاك المال، والثروة مع التواضع، والخلق، إضافة لحسن إدارة المال، والابتعاد عن الهدر، والتبذير الأعمى، وذلك بتوسيع دائرة من تطالهم منافع المال، باستثمار طاقات العمل بأحسن حالها، كأن نعلّم الناس الصيد، أفضل بمرات من إطعامهم السمك، فالثراء الحقيقي هو للنفوس، وليس للفلوس، وإلّا كيف نفسّر أن يتسابق الأثرياء، وتحديداً محدثو النعم، لتجميد مئات الملايين، لبناء قصورٍ لا يعرف أبوابها غير الخدم.
وكيف نفهم هذا البذخ، على إقامة الولائم الكبيرة، والمثقلة بأنواع الطعام، وليس هناك من يأكل منها، في وقتٍ يتضّور فيه الكثير من الناس جوعاً وحاجةً!
حالات الإسراف، والتبذير تشمل الأشخاص العاديين أو الاعتباريين، وبالتحديد من يكونون بمواقع المسؤولية، ويصرفون الملايين لمشاريع لا تقع في أولويات البلد، مقابل غضّ النظر عن مشاريع الزراعة، والصناعة، ودعم الإنتاج، وتأمين حاجات الناس الأساسية.
هذا في مفاهيم المنطق والعقل، تبذيرٌ وإسرافٌ، لا مبرر لهما، وهو ضياعٌ مؤكد للثروات الوطنية، فثروة الوطن بأهله، والاستثمار الناجح لما فيه من ثروات، يعود بالخير على جميع مواطنيه، ويحقق لهم الراحة والرفاه، وثراء الناس بأفعالهم وبمقدار ما يقدمونه من نجاح، وتقدم ونمو مستدام، لعموم الوطن.
هي معادلة متوازنة بين الطرفين، يفك رموزها من يقع في نطاق المسؤولية، ومفاصل الإدارة، المؤتمنون على ثروات الوطن.
أن تكون ثرياً، لا يعني بالضرورة حجم رصيدك المادي، بل بامتلاك العقل الذي يمكّنك من استثمار هذا الرصيد، للوصول إلى سعادتك، وراحة بالك، التي لن تجدها بعيداً عن نفوس وعيون المحبين والصادقين من حولك.. فالرحلة قصيرة، لا تهدرها بالبحث عن ثروة لا تفيد، فهل وصلت الرسالة؟.