لا يجتمع عدد من الشخصيات العربية، على اختلاف اختصاصاتهم في أي مكان داخل الوطن العربي أو خارجه، إلا واجتمعت همومهم في نقطة واحدة، وتفرعت من بعدها الهموم اللاحقة.
لقد مثلت الحدود السياسية بين الدول العربية أكبر هم يحمله المواطن العربي في حله وارتحاله، وما يجده من معيقات ويواجهه من عقبات لم تكن موجودة في ذهن الآباء والأجداد، أولئك الذين كانوا يرتحلون ما بين طنجة حتى البحرين دون أن يتحملوا عبء الإجراءات الإدارية البشعة.
تلك العقبة الأولى كانت السبب في الهموم اللاحقة، إذ أن الفرقة أضعفت تلك الكيانات الصغيرة والمتفرقة ووضعت العراقيل وقرارات تحديد الانتقال ما بين العواصم والمدن والبلدات حيث يعيش فيها أقارب وأهلون صاروا يحملون هويات مختلفة، أنتجت في النهاية تباينات واختلافات اقتصادية كبيرة وأحدثت خللاً في توزيع الثروة، أبرزت تمايزات ما بين منطقة وأخرى.
تلك المسافة البعيدة، على امتداد المساحة الواسعة، لم يكن المسافر فيها يخشى الضياع أبداً، ففيها كلها أناس يشبهونه ويفهمون لغته ويعرفون مقاصده ويستجيبون لمطالبه واحتياجاته، وهو بذلك ينتقل آمناً مطمئناً يختار مكان إقامته ومكان عمله وفق ما تسمح ظروفه وإمكانياته، فلا خوف ولا مشكلات ولا قرارات منع وحجب وتدقيق تواجه رحلته اليومية.
عاش جدي لأكثر من مئة وخمسة عشر عاماً، ما بين منتصف القرن التاسع عشر وأوائل السبعينات في القرن العشرين، جاب خلالها معظم الأراضي العربية من شرقها إلى غربها وعرف وتعرف على رجالات في المغرب ومصر والعراق والحجاز، وترك أولاداً وأحفاداً، يحمل كل واحد منهم بطاقة جنسية تقيم حاجز تفرقة وتمايز فيما بين كل واحد منهم، فما حاله إن عاد به الزمان ليرى أحفاده وقد باعدتهم خطوط أقلام الرصاص التي تركت على الخرائط حدوداً سياسية ارتفعت جدراناً وحواجز ونقاط تفتيش ومخافر جوازات وموافقات وتأشيرات دخول وتعقيدات ليس لها حد.
سيكون الجنون حظه، كما أن القهر سيقتله، وسيرى أن الموت كان أرحم كثيراً مما حصل بعده، وسيبكي كثيراً على ما ضاع من أمن وأمان.
تلك الصورة يعيشها غني العرب قبل فقيرهم، ومسؤولهم قبل مواطنهم، ولا تغادر منهم أحداً حين يجتمعون في أي مناسبة داخل بلدانهم أو خارجها، وتكبر مآسيهم وتتعاظم أحزانهم عندما يلتئم شملهم في بقعة عربية جميلة لا يستطيع بلوغها الآخرون.
تلك الأرض الكريمة المباركة الممتدة ما بين المحيط الأطلسي والخليج العربي تحمل ثقافة تعد مهوى أفئدة أبنائها وملتقى طموحاتها ومستودع ما تعدد من لهجاتها وفنونها وتقاليدها، تجمعهم حول حضارة كانت الخطوة الأولى في طريق التطور، وهي لا شك ستعيد سيرتها رغم ما تعيش من حصارات وعداءات وأطماع.