الثورة – عبد الحميد غانم:
لا شك أنه في السياسة لا يوجد خصوم دائمون ولا حليف دائم، بل مصالح دائمة تفرض شكل العلاقة السياسية بين الدول في ظل الظروف الدولية المتغيرة، فكيف الحال إذا كان الوضع مع دول الجوار التي ترتبط بحدود وتاريخ وعلاقات ثقافية واجتماعية.
علاقات سورية مع تركيا عاشت عبر التاريخ بين مد وجذر، ولم تكن في أفضل أحوالها في العصر الراهن، ويعود ذلك لارتباط تركيا بمشروعات كانت أكبر من حجمها ولتحقيق أطماع تريد إحياء الإمبراطورية العثمانية التي حكمت معظم قارات العالم القديم.
لم تكن تركيا كدولة حديثة بهذه الجغرافيا المعروفة، فهي ككيان سياسي بالحدود المعترف بها دولياً، لا يتجاوز عمره 100 عام ونيف، بعد تفكيك وانهيار الإمبراطورية العثمانية على يد البريطانيين بشكل أساس، وبشراكة الفرنسيين الذين تقاسموا حصص الرجل المريض، الذي أخَّروا انهياره أكثر من 50 عاماً.
واليوم في ظل سلطة أردوغان نرى تركيا دولة أنهكتها طموحاتها الخارجية، وفسادها الداخلي، فانعكس ذلك على الصراع السياسي الداخلي، حيث انخفضت شعبية أردوغان إلى حدود 34%، وخصومه أحزاب المعارضة الستة، التي شكلت تحالف الأمة بشعبية لحدود 42%، إضافة إلى الأحزاب السبعة، التي يقودها حزب الشعوب الديمقراطي، والذي تتحدث الإحصاءات عن إمكان حصوله على أكثر من 12% من مجمل الأصوات، على نحو يجعله الطرف المرجِّح في الانتخابات الرئاسية التي من المقرر أن تجري في أيار المقبل.
وربما هذا الأمر، يرجح الرأي القائل بأن التقارب مع سورية تم التمهيد له بشكل كبير في الإعلام التركي لاسيما المقرب من أردوغان، إذ يرى أنه في ظل التحولات السياسية والاقتصادية العالمية وتداعياتها على المنطقة ودولها ضرورة التقارب والمصالحة مع دمشق ووضع حد للخلافات والتوصل إلى حلول تخدم مصالح الطرفين.
لذلك ليس غريباً أن يأتي اللقاء الثلاثي الذي جمع وزراء الدفاع ومديري المخابرات في سورية وروسيا وتركيا في العاصمة الروسية موسكو، في مثل هذا الوقت وأنه على الأغلب، جاء ثمرة عدة لقاءات أمنية وعسكرية، وربما يعقبها لقاءات على ذات المستوى، أو تنتقل إلى مستويات أعلى، في حال تميزت، وفق وزارة الدفاع الروسية، بالطبيعة البناءة للحوار وضرورة استمراره.
ولا شك أن للرعاية الروسية دوراً مهماً في دفع اللقاءات المشتركة والحوار حول الملفات التي تناولها لتعبير بيان وزارة الدفاع السورية بأن اللقاء إيجابي.
أهمية اللقاء الثلاثي، والذي لم يأخذ نصيباً في الإعلام والتداول السياسي، أنه ربما يفتح آفاقاً جديدة في حال ارتبطت الأفعال بالنيات من قبل الجانب التركي.
سورية لا تعنيها اللعبة الداخلية التركية، وإنما تعنيها مصالحها وثوابتها ولا ترغب وفق نهجها السياسي بإقحام نفسها والتدخل بالشؤون الداخلية للدول، كما يفعل أردوغان ليس مع سورية فحسب، وإنما مع دول أخرى في المنطقة والعالم، وقد كشفتها مناطق النزاع التي حدثت خلال الفترة الماضية من هذا العقد.
لقد تورطت تركيا بمشكلات في غنى عنها أضرت بمصالحها وراء سعيها لتحقيق طموحات أثبتت التجارب أنها أكبر منها، وخصوصاً ارتباطها بالمشروع الأميركي الغربي في المنطقة والعالم، وبدلاً من أن تحسن علاقاتها مع جوارها التاريخي الأهم سورية والعراق، فقد أساءت لها، ونحت منحى يضر بها، في وقت كانت بحاجة ماسة إلى أن تكون هذه العلاقات على أحسن حال، وخاصة الاقتصادية، خصوصاً في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي يمر بها عالمنا اليوم.
ووضعت نفسها أداة لخدمة الناتو وأميركا والغرب عموماً وأقامت علاقات مع كيان إسرائيل، متخيلة أنها بهذا الوضع، ستنجح بالوصول إلى قلوب الغرب، وستكون بوابة أوروبا والغرب إلى الشرق، فخسرت الاثنين.
اعتقد أردوغان بسياساته أنه سيغير الموقع الجيو سياسي لسورية والمنطقة لمصلحة مشروعه العثماني الجديد ولمصلحة المشروع الأميركي الغربي، لكن ارتدادات سياساته اصطدمت بالصمود السوري شعباً ودولة وجيشاً وحلفاء، ما جعله يعيد كل حساباته.
مكانة الموقع الجيو سياسي لسورية تُعتبر الأكثر أهمية في العالم القديم والحديث والمعاصر، لوقوعها على ملتقى القارات الثلاث، والتي تعتبر جزيرة العالم وفقاً لماكندر، لها دور أساسي في تحديد معالم الحياة السياسية والحضارية، بتأثيرها في السلوك السياسي والحضاري لسكان بلاد الشام، فهي منطقة موغلة في القدم وسكنها الإنسان الأول، وفيها نشأت المعارف البشرية الأولى، ويعزى اكتشاف الزراعة إلى المناطق الفراتية في الألفية العاشرة قبل الميلاد.
وأدّت الواجهة البحرية لبلاد الشام شرق المتوسط دوراً أساسياً في وجود كنعانيي الساحل في بناء دول فريدة في ذلك الزمن، بما يسمى دولة المدينة City stat، كشكل من أشكال ما قبل الدولة الحديثة، بحدود معترف عليها بقوانين ومعاهدات فيما بينها، بحكم اهتمامها بالاقتصاد التجاري، في كامل حوض البحر الأبيض المتوسط، واعتمدت هذه الدول المدينية على توسعها، باستخدام القدرة الاقتصادية لترويج البضائع ونقلها فيما بينها وبين العالم المتوسطي، فبنت ما يشبه المستوطنات على شواطئ المتوسط، بقصد التجارة وليس السيطرة ونهب خيرات الشعوب.
لذلك فإن أي مشروع سياسي واقتصادي في المنطقة لا يمكن أن يتجاوز سورية وبلاد الشام والعراق، ومهما حاول المشروع الغربي وأميركا وأي مشروع انضوى بعباءته، لن يكتب له النجاح، وسيهزم كما هزمت المشروعات الأخرى التي سبقته.
سورية لا ترهن موقفها بسياسات متأرجحة ونوايا مشكوك بها، إنما تركز على ثوابتها الوطنية وحقوقها وسيادتها وسلامة شعبها وأراضيها في بناء أي علاقات مع دول الجوار أو في العالم، فإذا كان أردوغان أمام ضيق خياراته، فسورية أمامها متسع من الخيارات المتاحة، فهي تهتم بحل يضمن الحفاظ على ثوابتها وحل المشكلات من جذورها.