الثورة – هلال عون:
القانون الثالث من قوانين نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليدية، يقول: “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار و معاكس في الاتجاه”، لم يكن ينطبق عملياً على حالة أمريكا مع الدول الضعيفة التي تحاصرها اقتصادياً، حيث لا يوجد أي توازن بين الفعل الأمريكي القوي وردّ الفعل الضعيف لتلك الدول.
ولكن تمدّد العقوبات والحصار الاقتصادي الأمريكي إلى أكثر من 60 دولة حول العالم، ووصول العقوبات إلى روسيا والصين وإيران، سيجعل قانون نيوتن، حتميَّ التطبيق، وسيؤدي قريباً إلى انتهاء فعالية سلاح العقوبات الأمريكية ضد الشعوب والدول المختلفة معها سياسياً، وستجد أمريكا نفسها تتلقى ردّات فعل مؤذية اقتصادياً.
تتأتّى قدرة أمريكا وفعالية عقوباتها الاقتصادية من أمرين رئيسين من أن:
– الدولار هو العملة العالمية الرئيسة في المبادلات التجارية.
– رقابتها المُطبِقة على أنظمة وقنوات المبادلات والتحويلات المالية العالمية عبر نظام “سويفت” بشكل خاص، إذ إن نسبة المبادلات التجارية العالمية بالدولار تبلغ حوالي 80% من حجم التجارة العالمية.
في هذه المقالة سأركّز على الوسيلة الأولى (نظام العقوبات والحصار الاقتصادي الخانق) الذي تستخدمه أمريكا لإسقاط الأنظمة السياسية التي تعاديها، ونتائج ذلك، والمؤشرات التي تدل على أن هذا السلاح في طريقه إلى فقدان فعاليته.
نعم، فقدان سلاح العقوبات الأمريكي فعاليته، وهذا ليس من وحي الخيال الأدبي، ولا هو من أمنيات المتضررين من العقوبات الأمريكية الاقتصادية، بل هو واقع ناتج عن ردّات الفعل وجدران الصدّ التي تبنيها دول عديدة على رأسها روسيا والصين وإيران.
لقد بدأت ملامح بدء انهيار نظام العقوبات الاقتصادية الأمريكي بالظهور، حتى باتت الصحف الأمريكية تكتب عن ذلك، فها هي مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية تنشر مقالاً مطولاً للكاتب “أجاث دماريز” بعنوان: “سلاح يفقد فعاليته”.
وقد توقع كاتب المقال أنّ “الأيام الذهبية للعقوبات الأميركية قد تنتهي قريباً”.
و لفت إلى أن “استخدام العقوبات الاقتصادية من قبل واشنطن بشكل مفرط جعل عدداً من الدول المخالفة لسياسة واشنطن تعمل على تحصين اقتصاداتها ضد هذه العقوبات”.
وذكر ثلاث محطات رئيسة دفعت الدول المتضررة لإيجاد خطط لمواجهة عقوبات واشنطن:
– “في عام 2012، قطعت الولايات المتحدة إيران عن نظام – سويفت – النقدي العالمي، الأمر الذي دفع أعداء الولايات المتحدة وخصومها الآخرين، للتساؤل عما إذا كان دورهم سيأتي لاحقاً “.
– ” وفي عام 2014، فرضت الدول الغربية عقوبات على روسيا بعد أن ضمّت شبه جزيرة القرم، ما دفع موسكو إلى جعل الاستقلال الاقتصادي أولوية”.
– ” وفي عام 2017، بدأت واشنطن حرباً تجارية مع بكين”.
وقد أدّت هذه الحلقات الثلاث إلى ظهور ظاهرة جديدة، أطلقت عليها “فورين أفيرز” ظاهرة “مقاومة العقوبات”، وتجلّت أهم أشكال المقاومة باعتماد المقايضات الثنائية للعملات بين الصين وبعض الدول، ثم بين روسيا وبعضها الآخر، عبر ربط صفقات البنوك المركزية مباشرة ببعضها البعض، ما يلغي الحاجة إلى استخدام الدولار.
وقد حدث مثل ذلك بين روسيا والهند عام 2019، حين اشترت الهند صواريخ S-400 بقيمة 5 مليارات دولار.
وللتخلص من العقوبات الأميركية لوقف الصفقة، أعادت روسيا والهند إحياء اتفاقية مبادلة العملات التي يعود تاريخها إلى الحقبة السوفييتية، فاشترت الهند الصواريخ الروسية باستخدام مزيج من الروبل والروبية الهندية، وتمّ تجنب العقوبات الأميركية المتوقعة.
الآن ازداد عدد الدول التي وقعت الصين معها اتفاقات مبادلة العملات الثنائية على 60 دولة، بما في ذلك الأرجنتين وباكستان وروسيا وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية وتركيا والإمارات العربية المتحدة، وبقيمة إجمالية تقارب 500 مليار دولار.
وشملت عقود الصين التجارية مع روسيا عام 2020، بالعملات المحلية للبلدين أكثر من نصف تجارتها معها، وهذا يعني أن كل تلك التجارة محصّنة ضد العقوبات الأميركية.
ومن تلك المؤشرات أيضاً، قيام روسيا والصين وإيران، عملياً، بالتبادل التجاري في عقود النفط بالعملة الوطنية لكل دولة بعيداً عن الدولار.
إذاً، حرب العقوبات الاقتصادية الواسعة التي تمارسها أمريكا شجعت دولاً كثيرة متضررة، حتى الدول المتحالفة معها قامت بتوقيع عقود وصفقات تجارية مع الصين وروسيا ومع دول أخرى بالعملات المحلية لكل دولة، والسبب في ذلك خشية تلك الدول من قيام أمريكا بتجميد أموالها في البنوك العالمية، مع أي خلاف محتمل، أو حين تقتضي مصالحها ذلك.
وقد ساد هذا الهاجس بشكل خاص مع بدء الحرب بين روسيا والحلف الأطلسي انطلاقاً من أوكرانيا عندما قامت أمريكا والغرب بتجميد أكثر من 300 مليار دولار من أموال الشركات الروسية في البنوك الغربية، ومن ثم إخراجها من نظام تبادل العملات (سويفت)، كما كانت قد فعلت مع إيران قبل ذلك.
كل ذلك دفع بحلفاء واشنطن إلى التفكير في المصير الذي يمكن أن يلاقوه مع أي خلاف قد يحدث بينهم وبينها.
ومن قيمة التجارة الصينية والروسية العالمية تتجلّى حتمية نجاح التحول العالمي نحو الخلاص من سطوة الدولار، وبالتالي من سلاح العقوبات الاقتصادية الأمريكية.
فقد بلغ حجم التبادل التجاري الصيني في الأشهر السبعة الأولى من العام (2021) – بحسب مصلحة الجمارك الصينية – ( 21.34 تريليون يوان، ما يعادل 3.3 تريليون دولار)، بينما بلغ حجم تجارة روسيا الخارجية مع دول العالم في الأشهر التسعة الأولى من العام نفسه 540 مليار دولار، أي أن حجم التجارة الصينية في العام هو حوالي 6 ترليونات دولار، وحجم التجارة الروسية أقل بقليل من ترليون دولار، وحجم تجارة البلدين حوالي 7 ترليون دولار.
ومعلوم أن حجم التجارة العالمية المتوقع لعام 2022 هو حوالي 22 ترليون دولار، أي أن الصين وروسيا تحوزان حوالي ثلث التجارة العالمية، وإذا أضفنا إليهما دول منظمتَي (بريكس وشنغهاي)، فإننا ندرك حجم التغيير القادم.
في الإجراءات العملية لتحقيق الأهداف، اتجهت الصين إلى اعتماد عملة رقمية مرتبطة ببنكها المركزي مباشرة، يمكن استخدامها داخل البلاد، وكذلك يمكن الدفع بواسطتها للشركات الصينية من المشترين من خارج البلاد، ما ألغى الاعتماد على الدولار .
وكانت روسيا أنشأت النظام الروسي البديل عن سويفت ( SPFS ) عام 2014، على خلفية تهديدات واشنطن، بطرد موسكو من نظام سويفت المالي، بعد اندلاع أزمة شبه جزيرة القرم مع أوكرانيا، وتشارك فيه دول كالصين والبرازيل والهند وإيران.. الخ.
وفي العام 2015، أنشأت في شبه جزيرة القرم نظاماً بديلاً خاصاً بها وبشركائها وحلفائها، لأن القرم كانت عرضة لعقوبات غربية واسعة، وثمة أيضاً نظام صيني مشابه لهذا الروسي”.
ونظام ( SPFS ) الروسي هو اختصار لنظام نقل الرسائل المالية، ويقوم بصياغة ومعالجة التنسيقات الموحدة للرسائل المصرفية الإلكترونية، وقد نفذ أول معاملة ناجحة له في عام 2017، ولديه الآن أكثر من 400 مؤسسة مالية في شبكته، وتسعى روسيا لضم حلفائها لهذا النظام.
ويبلغ عدد الدول المشاركة في النظام، والتي تتعامل من خلاله 23 دولة من الدول الحليفة لروسيا وتربطها المصالح المشتركة معها.
ووفقاً للبنك المركزي الروسي، فإن ما نسبته 20 بالمئة من التحويلات المحلية تتم من خلال SPFS.
في عام 2019، ربطت طهران نظام المقاصة المالية المحلي (SEPAM) الخاص بها بنظام روسيا لتحويل الرسائل المالية (SPFS)، الأمر الذي يمكّن البلدين من إجراء المعاملات العابرة للحدود، وقد تبنت مئات المصارف الروسية نظام (SPFS).
أيضاً جرى تصميم “نظام المدفوعات الصيني (CIPS) بين البنوك لتعزيز سيطرة الحكومة المركزية على الاقتصاد المحلي وتسوية المطالبات الدولية باليوان.
كل ما سبق يبيّن أن العمل جارٍ على قدم وساق لنسف سلاح أمريكا (العقوبات الاقتصادية) التي جوعت شعوباً كثيرة، وأسقطت العديد من الدول.