لم تكن واقعية القرن التاسع عشر (واقعية كوربيه وكورو ودومييه وميلييه وغيرهم) هي الوحيدة على مر العصور، فقد كان الفن في كل حقبة تاريخية، يكمل دورته متحولاً من الواقعية إلى التجريدية، والعكس بالعكس.
وبمرور عدة آلاف من السنين التي قطعها فنان العصر الحجري، تحولت الصورة الواقعية التي رسمها على جدران الكهوف، بالتدريج إلى لغة رمزية تجريدية، وتم التعبير عن الشكل البشري بأنموذجين أو ثلاثة نماذج هندسية كخط رأسي مستقيم للجسم مثلاً، ونصفي دائرة أحدهما مفتوح نحو الأعلى والآخر مفتوح نحو الأسفل للذراعين والرجلين، وإنه لأمر لا يصدق ألا تعكس الفخاريات والأدوات الحجرية في تلك المرحلة الموغلة في القدم فناً طبيعياً بدرجة ما، بعد عدة آلاف سنة من الواقعية البدائية المذهلة.
وهكذا ظهرت ثنائية الروح والمادة في الفن الحجري المتأخر في جنوب غرب آسيا قبل عشرة آلاف سنة، ثم تطورت باستمرار عبر حضارات وادي الرافدين والنيل، و اليونان وروما وصولاً إلى مدن أوروبية أخرى ، وكانت تكيف عمق النظرة الروحية، بأشكال مختلفة استمرت حتى”بول سيزان” أن المسعى العظيم لـ “سيزان” كان في أنه دفع التفاحة بعيداً عنه، ليدعها تحيا بنفسها، إن هذا العمل هو أكبرخطوة انقلابية قام بها الإنسان منذ بضعة آلاف من السنين.
وهذه الحقيقة تؤكدها (على سبيل المثال) روائع التماثيل الفخارية التي اكتشفت في منطقة تقع في سفح جبل “ليشان” على بعد خمسين كم من مدينة “شيانيانغ” الصينية، وهي تجسد بواقعية مذهلة وبالحجم الطبيعي جيوش الإمبراطور (شي هوانغ) وبطريقة لا مثيل لها في كل تاريخ البشرية القديم والحديث.
مع الإشارة إلى أن تماثيل تلك الجنود لم تكن مجرد أعمال حرفية أو نقل جامد ومتشابه، بقدر ما هي موجهة لإظهار صفات وخصائص وروح كل شخصية، حتى إن تعابير الوجوه المجسدة تصل إلى حدود الإعجاز الفني، وكأننا أمام صور بشرية حية، كل وجه له قسماته وتعابيره وحالته النفسية الخاصة.
وهذه الحقيقة نلمسها حين نتأمل ملامح الوجوه، إذ ليس فيها وجه واحد يشبه الآخر، علاوة على وجود تعابير خاصة بكل تمثال على حدة، فالتحدي كان يكمن في قدرة الفنان الصيني على التقاط التعابير الحية والمباشرة التي تميز كل إنسان عن الآخر، بما فيها من سمو معنوي أو فني أو ملامح تشير إلى البساطة أو التفوق أو العظمة.
