الملحق الثقافي- مريم خيربك:
وأنا أنطلق من واقع محزن نعيشه نحن السوريين، بعد حرب عدوانية على سورية، شارك فيها بدايةً الوكيل من كل مَن جندته الصهيونية العالمية لتدمير سورية والاستيلاء عليها، بدءاً بالنصرة وداعش وجيش الإسلام، وما رافقها من أبواق إعلامية عالمية وعربية وسورية وليس نهاية بقسد وبعض السوريين .. وما نعيشه من واقع الموت والدمار جرَّاء هذه الحرب، المرفقه بقصفٍ إسرائيليٍّ متكرر، والمنتهية بزلزال أكمل بدماره على الكثير مما تبقى، وكرّس واقع الموت والدمار والفقد، وقسوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، لايسعني إلا أن أعترف، كما غيري، بما تخلَّل كل هذا مما نعيشعه الآن، ويؤكد عظمة هذا الشعب السوري، أولاً والشعوب العربية ثانياً، وشعوب الدول الصديقة والحليفة رغم أزماتها.
لكني أتوقف عند الشعب السوري الذي حاولوا تشويهه من خلال بعض الحالات، إذ لم يفارقني في يوم على مدى سنوات هذه الحرب وقساوة الأحداث واختلاط الأمور، وفي النهاية مايراه جميعنا اليوم من استنهاض الزلزال لأخلاقيات السوري والعرب، والصديق والحليف والإنساني أننا شعب حيٌّ مازال بخير.
وهنا أعود بذاكرتي إلى بداية الحرب على سورية، هذه الحرب التي أصرّّ كثيرون أنها حرب طائفية، أهلية رغم إدخالهم مئات الآلاف من شذاذ الآفاق في بقاع الأرض، مايؤكد أنها ليست حرباً بين السوريين، وبأنهم لو استطاعوا أن يجدوا من السوريين مايكفي تنفيذ مخططهم ماكانوا استقدموا جيشاً دفعوا عليه مليارات الدولارات كي يشنَّ حرباً إرهابية تكفيرية على مساحة الوطن السوري.
كنت أربط دائماً بين قراءاتي حول ما يمت إلى الحرب على سورية بِصِلة فأرى في الإصرار على تسميتها حرباً طائفية أو أهلية عودةً بي إلى تاريخ إنشاء أحزاب الإسلام السياسي، التي كانت في نفس مرحلة غرس الكيان الغاصب في فلسطين بعد استقلال بعض دولنا العربية، حيث اكتشف عدوُّنا المجسَّد بالصهيونية العالمية أنَّ أهم مايحقق مخططاته وأهدافه هو تسييس الدين، ونخر مجتمعاتنا العربية الفسيفسائية من داخلها بفكر ديني وثقافة بعيدة كل البعد عن طبيعة ديننا وشعوبنا، وعن ثقافتنا وموروثنا.
وإذ تكثر الشواهد أعود إلى سورية وحرب الثمانينيات عليها، والتي كانت المرحلة الأولى لهذه الحرب العالمية التي نشهدها الآن ، والتي نشهد فصولها ونعيشها منذ اثنتي عشرة سنة إلى الآن بشكل متواصل..وكانوا قبلاً في الثمانينيات قد حاولوا تدميرها عبر حرب تكفيرية بدأت بعد انتصار سورية على إسرائيل في حرب ١٩٧٣، سورية التي اعترف بعض قادة الكيان الصهيوني أنها سجَّلت انتصارات فاجأته لاسيما في سلاح الجو…
وتمهيداً لإكمال تنفيذ مخططهم أسقطوا الاتحاد السوفياتي، القوة المواجهة للإمبريالية العالمية، والقطب الذي كانت تستند إليه الشعوب الضعيفة، لتعلن أميركا عبر مفكريها نهاية التاريخ، وحكم القطب الواحد للعالم عبر نظام العولمة متعدد الجوانب .. كما ذكر ( كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما).
هنا وفي ال ٢٠٠٥ يتم اغتيال الحريري، فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها على سورية، التي اتهموها بقتله، وطالبوا بخروج الجيش السوري من لبنان إثر هذا الاتهام لتخلو الساحة لأنصارهم الذين بدؤوا بالمطالبة بتصفية حزب الله..
هنا تبدأ حرب ال٢٠٠٦ بين لبنان أو بالأحرى حزب الله وإسرائيل، وتكون بنتائجها أول حرب تكسر هيبة إسرائيل أمام العرب والعالم، لاسيما العالم المتبني لسياسة إسرائيل، والداعم لها، والأنظمة العربية العاجزة والمتآمرة على المقاومة وسورية، وقضية فلسطين، وفي نفس الوقت أظهرت تعاطف الشعوب مع القضية الفلسطينية والعربية مامهد لعودة القطب الآخر إلى المنطقة والساحة العالمية مع درسٍ قاسٍ للاحتلال وداعميه.
لكنَّ النتيجة التي كانت الأقسى عليهم، وفتحت عيونهم على حقيقتها هو التعاطف منقطع النظير من قِبَل الشعب السوري بدون استثناء، رغم محاولتهم تعزيز الطائفية على مدى عقود، تعاطفاً جعل دمشق وجميع المدن السورية تفتح بيوتها وقلوب ساكنيها لاستقبال شعب المقاومة الذي تقصفه إسرائيل ليل نهار مدمرة بيوتهم والبنية التحتية لمناطقهم، دون أن يقول الدمشقي أو الحلبي أو ابن الساحل هذا سني وهذا شيعي أو مسيحي أو…أو…….
لقد هبَّت سورية بكل من فيها لدعم المقاومة وشعبها المنكوب، وهذا ماحصل على مدى حروب العراق، حيث استضافت سورية مليونَي عراقي لهم ما للسوريين في جوانب الحياة رغم الحصار الاقتصادي الذي كان مضروباً على سورية، والأزمات التي يعيشها السوريون في كل حياتهم، ومرور سنوات قليلة على حرب الثمانينيات.
وما كان عظيماً هو المظاهرات في أنحاء العالم ضد الكيان الغاصب، وتعاطف مع المقاومة جعل هذا العدو كما عادته، يقف وقفة المتأمل بغضب لما حصل، ويستنجد بعلم النفس والاجتماع وكل مايساعده كي يواجه هذا كله من خلال مخططاته التي دأبت على تدمير سورية ذات البنية الاجتماعية الفسيفسائية عبر محور الدين، سورية التي رأى فيها هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول الهدف الأساس كي يستولوا على المنطقه كلها، لاسيما وأنهم مقتنعون أن شعوب منطقتنا غبية جداً ولا تتعلم من تاريخها.
وفعلاً بدأ العمل على قدم وساق، وكانت البداية للحلقة الجديدة في المخطط مع ( الربيع العربي ) الذي أوهم به شعوبنا عبر سيناريوهات متنوعة اختارها بداية في تونس ومصر، بما يسهل مهمته التي حقق الكثير منها، وقد تأكد هذا بعد سنوات مع حكم الإسلام السياسي، حليفه وأداته في تنفيذ مخططاته في مصر وتونس ودول أخرى..
ومع توالي الأيام أصر عبر دقائقها وثوانيها أنه يدافع عن شعوبنا وحريتها وحقها في تطبيق الديمقراطية كما أرادها، وقد ساعده في هذا البنية السياسية والدينية الهشة لمعظم هذه الدول، والجامعة العربية التي أعطت قيادها لدول عربية حليفة لعدو الدول المقاوِمة، ودول الغرب الاستعماري ومخابراته التي اشترت النفوس الضعيفة الباحثة عن مصالحها، ومن استطاعت السيطرة عليهم من بسطاء الناس والجهله وأصحاب الانتماءات المَدينة بولائها لفكرٍ وثقافة دينية جعلتها وقوداً لحرب لامصلحة لها فيها.
يثبت الشعب السوري يوماً بعد يوم، لاسيما مع الزلزال الذي ضرب سورية بقوة تجذُّر ثقافته في أرض وطنه الحاضنة لأعظم الحضارات، فإن كان قد حرَّض بعضَ السوريين الأموال، أو الجهل، أو المظالم الناتجة عن الفساد، والتي أوجدت ثغرات نفسية عندهم، أو الاستغلال الدؤوب للظروف، أو تحرك الإسلام السياسي بقوة …أو…أو…أو…ودفعوا الضريبة غالية، وقد وعاها بعضهم، إلا أنَّ حجم التآمر العالمي وما دُفِع لهذه الحرب كان كفيلاً بأن يسقط أكبر الدول، التي ترزح منهكة الآن تحت ضربات الحرب الأوكرانية من حرب عسكرية ليست فوق أرضها، فكيف لو حصل لها ماحصل لسورية التي دُمِّرت بحرب ممنهجة، تناولت ثقافتها بكل عناصرها، من اللغة، إلى الآثار، إلى العادات والتقاليد، إلى الدين السمح في حقيقته، والذي يؤسس للكثير من عوامل ثقافتنا، إلى…إلى…وجذَّرت لغة القتل، وهي أبعد لغة عن طبيعة هذا البلد الذي كتب كثير من الغربيين عن الإجرام الذي مورس بحقه….
فرغم هذا الإجرام الذي مورس بحق السوري على مدى سنوات الحرب، ومن خلال جميع أفعاله يكذِّب ادعاءات من خطط لها ونفذها، عبر ثقافة الحياة عنده، التي جعلت الطوائف تستعين ببعضها لتجاوز المحن، والمحافظات بكل تنوعها تشهد تعاوناً إنسانياً لم تقف بوجهه أفعالهم التي لم تفرق بين هذا وذاك عندما كان يقف في وجه مخططهم، التي بُذلت أقصى الجهود كي تكون الطائفية محورها.
هذه الطائفية التي يواظبون بإصرار على تجذيرها في ثقافتنا حتى الآن عبر آلاف الفيديوهات، الأداة الهامة جداً في عصر التقنيات الذي نعيشه، والتي لاتزال تُضخ لتشويه ثقافتنا، وثقافة أدياننا، وتشويه عاداتنا، وبث آلاف الشائعات في أقسى ظرف اجتماعي واقتصادي وعسكري تعيشه سورية مع نتائج الحرب، والآن نتائج الزلزال …
رغم هذا الواقع القاسي بكل أبعاده مازال كثير من السوريين يقفون بثبات محصنين بثقافتهم الوطنية المتجذرة عندهم في وجه مايواجهونه، فيسجلون أروع قصص التآلف والتعاضد ونبذ الطائفية والإقليمية والإثنية و…و…و…
ويشهد على هذا ماحصل في عدرا العمالية، وفي الجزيرة، وفي كل مدن سورية وقراها …حتى في الدول التي استقبلت المهَجَّرين السوريين، الذين لُعِب بمصيرهم، وخُطِّط لتهجيرهم لتكون هذه الحالة ورقة في أيدي أعدائنا يلعبون فيها بمصير الشعب السوري الذي حاولوا تشويه جميع جوانب حياته.
مع حرب أوكرانيا التي تشكل حلقة في الحرب العالمية التي تشنها الصهيونية بعد حربها على سورية والمنطقة العربية، تتجلى عودة القطب الثاني بقوة، ضد القطب الذي تجسده الدول الرأسمالية التي ظلت تحلم بمشاريعها الاستعمارية القديمة الحديثة..
ونصل إلى هذه الأيام، وتحديداً مع الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا، لنعيش ظرفاً قاسياً أكثر من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي نفس الوقت حالة تعطي للعالم الدرس الإيجابي حول ماحصل ويحصل مع هذا الزلزال، وليتجلى بوضوح مقدار الكذب الذي مارسه أعداؤنا وهم يدمرون هذا الوطن، من خلال وقوف الدول الشقيقة والصديقة والحليفة قيادات وشعوب إلى جانب سورية، مخترقة الحصار الخانق المضروب حولها إلى جانب شعبها الذي اندفع بكل مخزونه الحضاري والثقافي والوطني ليجسد من خلال جميع طوائفه وشرائحه وأديانه أروع صور التعاضد والتكاتف والإيثار والوعي والتلاحم، ماعرَّى كذب ومزاعم أرادوا إقناع جميع العالم بها حول طائفية هذا الشعب.
لقد فشلت حرب الوكيل على سورية، وهو الجيش التكفيري الإرهابي الذي جمع من كل العالم شذاذ الآفاق ليخلفه الأصيل وهو أميركا ومجموعات قسد، وتركيا، وإسرائيل التي لاتفتأ تقصف المواقع السورية، وفي الداخل الفاسدون الذين يستغلون الحصار الاقتصادي ليصلوا إلى ماعجز الوكيل عن الوصول إليه عسكرياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، محاولين عبر حرب الشائعات الممنهجه حرف الأنظار عن المسبب الرئيس للظروف المعيشية القاسية، وهو الحرب، ليقنعوا الشعب بأن الفساد الذي لاننفي آثاره ونتائجه هو المسؤول عن كل مايحصل .. إن ماحصل بعد الزلزال أظهر هشاشة، ولا إنسانية، وإجرام النظام الرأسمالي المتوحش، الذي خدع الشعوب عندما أوهمها أن هذه الحرب من أجل حريته ورخائه وديمقراطيةٍ يريدها له…
وكما يقول المثل ذاب الثلج وبان المرج، واتضحت جرائم القطب الصهيوني الذي لايريد سواه، وسوى مصلحته، لذلك يعمل على طمس هوية دولنا وأي دولة هي هدفه، وتدمير آثارنا وثقافتنا وأدياننا وإنساننا وأرضنا وكل ماتُؤَسَّس عليه دولنا ….مستعيناً لتحقيق أهدافه بعملائه في الداخل والخارج….
العدد 1134 – 28-2-2023