معظم الكتابات الصحافية التي تنشر عن الفن التشكيلي عندنا، ترتكز على قناعات قاصرة، عندما تشير إلى أن اللوحة التجريدية الحديثة هي لوحة وافدة، وما عداها أساليب لها صلتها بالواقع المعيش وبالحياة العربية، وهذه النظرة السطحية التي تحكم توجهات بعض الفنانين أيضاً، جعلتهم يستعيدون بطريقة تقليدية التكوينات التراثية والفولكلورية الجاهزة تعبيراً عن الذهنية الأدبية والاقتباس التقريري المباشر الذي يمارسه هؤلاء، فليس الهدف مطلقاً أن يكون الفن فولكلورياً أو صورة وصفية عن ألوان وأشكال الواقع المحلي، بل أن يحمل دينامية المتغيرات المستجدة على الساحة الفنية للوصول إلى مقدرة تشكيلية مغايرة تحمل نبض الحقيقة أو الأصالة أو اختبارية فنون العصر .
والخلل الكبير الذي أصاب بعض التجارب العربية، التي ظلت بعيدة عن الطروحات الغربية، يكمن في ارتباطها المباشر بالتكوينات السياحية والفولكلورية، بدلاً من ارتباطها بالذوق المحلي المتعصرن، الذي جاء كخطوة ذكية لإنعاش روح البحث عن حركة التجليات التشكيلية الجديدة لعوالم السحر الشرقي، دون التقوقع في إشاراتها السطحية أو المباشرة، حيث تتجاوز من الأساس الإيقاعات التشكيلية المألوفة في الفضاء الواقعي المرئي، بهدف الوصول إلى ما يمكن تسميته مؤشرات تفتيت الفضاء التقليدي، والنفاذ إلى جوهر الشيء المرسوم، بعد إزالة تلافيف قشوره الخارجية، مع المحافظة على روح أو جذور التراث العربي، والإبقاء على بريق اللون المحلي، الذي يضيء اللمسة اللونية المتحررة المتأثرة بأجواء اللوحة التجريدية الأوروبية الحديثة، ويمنحها معنى آخر خارج حركة المألوف في التيارات الغربية، كما أننا بحاجة إلى كتابات تحليلية ونقدية تتجاوب مع الجماهير العريضة دون الرضوخ إلى السهولة، لأن السهولة الميسرة تقتل العمل الفني وتضعه في قائمة الأعمال اليدوية الصرفة، فالكثير من الذين يمارسون الكتابة عن الفن التشكيلي في بلادنا ما زالوا يخلطون في قراءاتهم بين الجمال السمعي والبصري، ومازالوا ينظرون إلى العمل الفني من زاوية أذواقهم الخاصة، فنجد بعض هؤلاء يدافعون عن اللوحات التقريرية المباشرة ذات الطابع التسجيلي المتقوقع في إطار الفنون الاستهلاكية التجارية، وفي ذات الوقت يستهجنون وبكل وضوح الاتجاهات التجريدية الطليعية، وعلى هذا يتحول هذا المحرر أو ذاك في بعض الأحيان إلى ناطق رسمي يدافع عن اتجاه ويحارب اتجاهاً آخر، ليس لأن أغراضاً شخصية تدفعه إلى ذلك فحسب، بل لأنه أيضاً لم يمتلك بعد الحساسية البصرية والروحية، التي تساعده على كشف جماليات العمل الفني الحديث عندما تصل التجربة إلى أقصى حدود المغامرة، في محاولة من الفنان للإمساك بالنهايات الثقافية المميزة لهذا العصر.
التالي