سيناريوهات ما بعد الفوضى الهدَّامة

د. م . محمد رقية أستاذ جامعي وباحث أكاديمي:
ما إن بدأ الاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يوم السبت 15 نيسان في العاصمة الخرطوم وأماكن أخرى من السودان، حتى بدأ المحللون والكتاب بالحديث عن هذه المعارك وأسبابها وأهدافها ومراميها ومآلاتها وكل منهم يحلل الوضع بما يتفق مع وجهة نظر الجهة التي يعمل عندها أو بما يساعد في التغطية على أهداف المعارك من كلا الجانبين أو الداعمين لهما أو يحلل طرفاً من المشكلة، أو يركز على أحد عناوينها، إلا أن القليل جداً من هذه المقالات التي دخلت في عمق المشكلة والجهات المؤججة لها.
عند الحديث عن السودان ومشاكله لا بد في البداية من تثبيت نقاط عدة أولها أن السودان كان يشكل هذا البلد قبل تقسيمه في عام 2011 باقتطاع 644 ألف كم2 منه لدولة جنوب السودان, أكبر بلد إفريقي وعربي من حيث المساحة التي تجاوزت 2,5 مليون كم2 أي ما يعادل مساحة معظم دول أوروبا الغربية مجتمعة وغناه الذي يفوق الوصف بالموارد الطبيعية وثرواته؛ الزراعية، والحيوانية، والمعدنية، والنباتية، والمائية، والنفطية, ويشكل حقيقة سلة الوطن العربي الغذائية.
وثانيها فإنه وفقاً لتقديرات منظمة الاتحاد العربي للصناعات الغذائية، يتمتع السودان بحوالي 46% من إجمالي الأراضي العربية الصالحة للزراعة البالغة مساحتها 471 مليون فدان تقريباً، مقابل 20% في الجزائر و18% في المغرب و10% في العراق. وهو الدولة الأولى في العالم بإنتاج الصمغ العربي, حيث ينتج 75 بالمئة من الإنتاج العالمي هذا فضلاً عن امتلاكه لنحو 24 مليون هكتار مراعيَ، و64 مليون هكتار غابات يمكن أن تستغل في تجارة الخشب وصناعة الورق، والصمغ العربي ومواد صناعية أخرى عديدة، ويمتلك أكثر من 130 مليون رأس من الماشية, ويبلغ احتياطي السودان من النفط المؤكد 6.8 مليارات برميل (2010)، وهو بهذا يحتل الرقم 20 في العالم، وأصبح الآن الجزء الأعظم  منه في جنوب السودان.
وثالثها تغطي الصخور الاندفاعية الغنية بالمعادن أكثر من نصف مساحة السودان  ويوجد في هذا البلد أكثر من ثلاثين نوع من الخامات المفيدة، كما وينتج أكثر من 100 طن من الذهب سنوياً، فضلاً عن وجود مخزون هائل من اليورانيوم بإقليم دارفور واقليم كردفان، والنيل الأزرق وولاية البحر الأحمر ويتميز خام اليورانيوم الموجود هناك بأنه من النوع عالي النقاوة.
ورابعها امتلاك السودان لثروة مائية عظيمة فعلى أراضيه يلتقي النيل الأبيض والنيل الأزرق شمال الخرطوم ناهيك عن موقعه الجغرافي في قلب إفريقيا الشمالي الشرقي ويطل على ساحل البحر الأحمر بامتداد يبلغ أكثر من 700 كيلومتر، ما جعله على تماس وتفاعل مع الحركة التي تمر جيئة وذهاباً فوق مياه هذا البحر العربي ذي الأهمية الاستثنائية التي اكتسبها من الأنشطة التجارية والثقافية والعسكرية, وجعل السودان ذا أهمية حيوية بالنسبة لإفريقيا والبلدان العربية وخاصة شبه الجزيرة العربية.
لقد تنبه الغرب الاستعماري وأمريكا وإسرائيل إلى خيرات وثروات السودان وموقعه الجغرافي منذ ستينيات القرن الماضي، فكيف يمكن لهم أن يتركوا بلداً بهذه المساحة وهذه الثروات وهذا الموقع أن يعيش مستقراً؟ لذلك بدؤوا بتنفيذ مخطط لتفتيت السودان وإشغاله بالحروب الأهلية لإضعافه وإحكام السيطرة عليه وعلى ثرواته، خوفاً من أن يصبح دولة إقليمية قوية كبيرة وقوة مضافة إلى الوطن العربي، وهو ما يتعارض وبصورة مباشرة مع مصالح الغرب وإسرائيل في الشرق الأوسط وإفريقيا.
لهذا لم يترك هذا البلد ينعم بالهدوء منذ الاستقلال عام 1956 فقد عانى منذ ذلك التاريخ من 35 أزمة سياسية وعسكرية بمعدل كل سنة أو سنتين ترافقت بانفصال جنوب السودان عنه عام 2011 وازدياد المحاولات الجديدة للانفصال، ومن راقب تطورات الأحداث يجزم بأن واشنطن وحلفاءها فعلوا في السودان ما فعلوه في غير مكان، فهناك بعض التشابه من حيث تفكيك الدولة والمجتمع، وممارسة الهيمنة والوصاية الأجنبية بين حال السودان في هذه الفترة الانتقالية، وبين حال العراق بعد احتلاله في عام 2003، ومثلما فكك الاحتلال الأمريكي مؤسسات الدولة العراقية في عهد بول بريمر، فإنّ مؤسسات الدولة في السودان المدنية منها والعسكرية قد تعرضت إلى التفكيك والإضعاف في عهد رئيس البعثة الأممية إلى السودان فولكر بيرتس وتم فصل آلاف الضباط من الجيش والشرطة.
إن ما وصلت إليه أوضاع السودان من تمزق وتمرد يعم البلاد وراءه قوى خارجية تسعى إلى تحويل السودان إلى بلد ضعيف تحركه إمارات متصارعة لتسرق خيراته وثرواته وتسيطر على جغرافيته وعلى رأس هذه القوى الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين وربيبته أمريكا، وكان الجنوب هو البؤرة الأولى للتدخل الصهيوني عن طريق دعم قوات التمرد وفق ما قال وزير الأمن الصهيوني.

إن رؤساء الحكومات في الكيان الصهيوني من بن غوريون إلى أولمرت إلى نتنياهو تبنوا استراتيجية التعاطي مع السودان المرتكزة على تفجير بؤرة الجنوب ثم دارفور، وركزت الخطة الصهيونية على أهمية الدور الأمريكي في دارفور الذي يسهم في تفعيل الدور الإسرائيلي وإسناده حيث قال شارون عام 2003 بأنه حان وقت التدخل في غرب السودان.
والغريب في الأمر أن هناك قوى إقليمية نقلت إلى الخرطوم في المرحلة الانتقالية رسالة مفادها أن التطبيع مع إسرائيل هو الحل للأزمات التي تواجه السودان، ولا سيما الاقتصادية، وأن إرضاء إسرائيل هو الطريق الوحيد لقلب أميركا.
باختصار الخلفيات الأساسية لهذه الأحداث تتمثل بتقديري بالأهداف التالية:
1- تحقيق الهدف الأساسي وهو لإضعاف السودان تمهيداً لتفكيكه لاحقاً.
2- محاصرة مصر اقتصادياً ومائياً وجغرافياً.
3- ضرب الاستثمارات والمصالح الصينية والروسية في السودان وإفريقيا بشكل عام لحساب مصالح الكيان الصهيوني وأمريكا.
4- الحفاظ على تجارة تهريب الذهب والمعادن الثمينة.
5- محاولة ضرب الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية والتشويش عليه بامتلاك زمام المبادرة في السودان خاصة بعد عودة السفير الأمريكي إليه في الشهر الثامن من عام 2022.
6- السعي لعدم الاستقرار في البحر الأحمر وباب المندب لصالح الأمن الصهيوني.
7- هناك دور إثيوبي يتكامل مع الدور الأمريكي والصهيوني فلإثيوبيا مصالح لا تخفى في فصل مصر عن السودان في قضية سد النهضة وفي مجالات التنسيق العسكري، ومن المعروف بأن إثيوبيا تملك علاقات دافئة مع الكيان الصهيوني وتنسق معها في الكثير من القضايا المتعلقة بأمن المنطقة، وبهذا يتشكل أمامنا هذا التحالف الثلاثي المستفيد مما يحصل في السودان.
في ضوء ما شرحناه فإن ثمة سيناريوهات في المواجهة هي:

1- سيناريو أساسي وفاعل ودائم حسب الظروف المواتية وهو السعي لعدم استقرار السودان تمهيداً لتفكيكه وتقسيمه لاحقاً وهذا هدف صهيو أمريكي لن يتخلوا عنه كلما رأوا ذلك مناسباً.
2- سيناريو تهدئة مؤقته لدراسة الظروف الملائمة لأمريكا والكيان الصهيوني لتحريك الوضع لاحقاً باعتبارهما المحركين الأساسيين للأحداث.
3- سيناريو عودة “الدعم السريع” إلى دارفور تمهيداً للحكم الذاتي أو الانفصال.
ختاماً إن من دمر بلداننا وفتتها وسرق ثرواتنا واحتل أراضينا هي أمريكا و”إسرائيل” وهما مستمرتان في ذلك والآن جاء التركيز على  السودان لإشغال منطقة القرن الإفريقي وشبه جزيرة العرب كلها وتطويق مصر وضرب مصالح الصين وروسيا في المنطقة الإفريقية.

آخر الأخبار
تيزيني: غرف الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة كانت تعمل كصناديق بريد      تعزيز التعاون في تأهيل السائقين مع الإمارات بورشة عمل افتراضية     الإبداع السوري .. في"فعالية أمل" ريف اللاذقية الشمالي يشتعل مجدداً وسط صعوبات متزايدة وزير الطاقة: معرض سوريا الدولي للبترول منصة لتعزيز التعاون وتبادل الرؤى بطولات الدفاع المدني .. نضال لا يعرف التراجع في وجه الكوارث والنيران  وزير الطاقة يفتتح "سيربترو 2025"  وزير الطوارئ يتفقد مواقع الحرائق ويشيد بجهود الفرق الميدانية   500 سلة إغاثية لمتضرري الحرائق باللاذقية  السويداء على فوهة البندقية.. سلاح بلا رقيب ومجتمع في خطر  دمشق وأبو ظبي  .. مسار ناضج من التعاون الثنائي الحرائق تتمدد نحو محمية غابات الفرنلق.. وفرق الإطفاء تبذل جهوداً جبارة لإخمادها امتحانات البكالوريا بين فخ التوقعات والاجتهاد الحقيقي "لمسة شفا" تقدّم خدماتها الصحية والأدوية مجاناً بدرعا مشاريع خدمية بالقنيطرة لرفع كفاءة شبكة الطرق تطويرالمهارات الإدارية وتعزيز الأداء المهني بعد تدخل أردني وتركي..الأمم المتحدة تدعو لدعم دولي عاجل لإخماد حرائق اللاذقية متابعة التحضيرات النهائية لانطلاق امتحانات "الثانوية" في ريف دمشق الخبير قوشجي لـ"الثورة": الأمن السيبراني أساس متين في التوجه نحو الاقتصاد الذكي "التربية" تتابع تصحيح أوراق الامتحانات في إدلب