فاتن دعبول:
لم يكن اجتماعاً تقليدياً في حفل توقيع كتاب نبيل صالح “تحرير العقل العربي، والعبور نحو المستقبل” بل كان احتفاء لافتاً لمبدع اعتاد أن يقدم فلسفة من طراز رفيع، اجتمع حوله كل مهتم ويملك من الشغف ما يدفعه لالتقاط أهم تفاصيل هذا المبدع، وكيف يرصع كتابه بفكر يأخذك إلى التفكر والتبصر والتحليل والتفكيك، لتحط رحالك بعد صفحات تجاوزت الـ 400 صفحة من القطع الكبير، وأنت تشعر بالمتعة وبمزيد من الرغبة في إعادة القراءة ثانية لعل بريقاً جديداً ينير درب العبور إلى مستقبل آمن.
يطرح المؤلف نبيل صالح في مقدمة كتابه أسئلة عديدة تشي بمضمون الكتاب فيقول: كيف نشكل الغد قبل أن نصل إليه، وكيف نبني صرح المستقبل الآمن؟ وبرأيه إن عمل اليوم هو ما يشكل بناء الغد، وفهم أخطاء الأمس ستساعدنا في تصويب عمل اليوم، ومن لا ينتفع بدروس ثلاثة آلاف عام، لم يتجاوز زاده خبرة يوم بيوم حسب تعبير الفيلسوف الألماني غوته..
ويؤكد بدوره أن السمة الرئيسة للطبيعة هي التغير المتواصل حسب هيراقليطس، وما هو صحيح اليوم قد يغدو خطأ في الغد، وما كان مهماً بالأمس قد لا يحتاجه الناس اليوم، وأخطر ما نتعرض له الآن هو إعادة استخدام هوية بمقومات متخفية لم يتم تحديثها، وكأن هويتنا اليوم هي نفسها هوية مجتمع الزير سالم، أو مجتمع أبو سفيان أو المستنصر بالله .. لنبدو كشعب يعبد أصنام الأجداد التي حطمها إبراهيم الخليل .. دون أن يفهم أتباعهما المغزى من عملهما هذا، فالزمن غالباً ما يهزأ بالأجوبة التي كانت يقيناً بالأمس، وأصبحت خطأ نرتكبه اليوم، ولكن بعد أن نكون قد دفعنا ثمناً غالياً.
ويبين أن الغرب الاستعماري يعمل على زعزعة وإضعاف مستعمراته القديمة في الشرق الأوسط ويعرقل استحقاقاتها الوطنية عبر تغذية عصبياتها وتمويل انشقاقاتها وثوراتها .. وعليه يجب أن نعيد فكرة عدم الانحياز داخل الأوطان وخارجها، وعدم الانخراط في التحالفات التي يقطف الأقوياء ثمارها .. ويتم ذلك بتنمية مؤسسة العدالة ونظام المواطنة لأجل الحماية والمنفعة المشتركة بين المستعمرات السابقة والأوطان اللاحقة.
ويضيف: إننا نشكل أرضاً خصبة للثروات الباطنية وطريق عبور لمنتجات الشرق والغرب نحو العالم، وإذا لم يكن بمقدورنا أن نكسب في المواجهة، يمكننا أن نحقق بعض المكاسب في الامتناع والرفض واستثمار إنتاجنا من العقول الوطنية بدلاً من تصديرها أو نفيها.
ويؤكد أننا نشكل قوة مهدورة وطنياً وعالمياً، تحتاج إلى تنظيم وإعادة توجيه باتجاه مصلحة مالكيها وتأمين حياتهم بدلاً من دفع المزيد منهم إلى الهجرة وإرباك الدول المضيفة أو المتاجرة بهم.
ومع كل هذه الثروات والنخب الفكرية والعلمية، من العار ألا يكون لنا مساهمة في تحسين كوكب الأرض وضمان حياة كريمة لأهلنا بعد قرون من الظلم وفوضى الحكايات وحروب الذاكرة، فيروح السلام والعلم والعدالة يمكننا أن نصمد أكثر في وجه أعدائنا، فيما هم أكثر تسليحاً وعسكرة وتنظيماً منا.
والكتاب الصادر عن دار الشعب للنشر والتوزيع قسمه المؤلف إلى عناوين استمدت من واقع نعيشه، وربما هو امتداد لعصور مضت، أو هي أحداث عبرت تاريخنا وما تزال آثارها ترنع في واقعنا، من مثل”من كابل إلى إدلب: طالبان في بيتنا” والعنوان” ماذا بعد الشتاء الطويل؟” والعنوان اللافت” حتمية نهضة الأمم بعد الحروب” ومنه نقتطف:
“كما ينبعث طائر الفينيق من رماده، كذلك تنهض الأمم من رمادها، وتتجدد بعدما تخمد نيران الحروب، ويكون نهوضها بحجم وعيها لأسباب الحرب وموعظة الدم الذي دفعته ثمناً للتجدد، ذلك أن التقدم العلمي يتواكب تاريخياً مع تطوير الصناعات الحربية وعمليات القتل المنظم التي يدير السياسيون معاركها باسم الوطن، فكيف هو وعي المجتمعات العربية لحروبها الأخيرة، وهل ستكون باعثاً لنهضة اجتماعية واقتصادية، أم إنها ستراوح مكانها معيدة دورة الدم بعد بضعة عقود؟
ويخلص بدوره في ختام كتابه إلى مجموعة تساؤلات يضعها بين يدي القارىء، يقول:
هل مستقبلنا كامن في حاضرنا كشكل من أشكال التوقع؟ هل كان المستقبل الذي توقعه آباؤنا يشبه ما نحن فيه اليوم، وهل ما نحن فيه اليوم يشبه الماضي الذي سمهنا عنه من آبائنا؟ هل نحن فعلاً ركبنا قطار المستقبل أم مازلنا ملتصقين بالمحطة؟
إن قراءة المستقبلات يجب أن يبدأ بتعريف ما هو المستقبل، وعلى هذا الأساس يمكننا أن ننتقل إلى تحديات المستقبل الذي يكمن فيه مستقبل المستقبل.