ديب علي حسن
ببراءة الأطفال كانت حفيدتي مريم تسألني: لماذا دائماً أنت مشغول بهاتفك يا جدّي… اتركه قليلاً وتعال نتحدث، بعد أن تركتم المناوبة في العمل لانراك إلاّ وأنت مشغول بالهاتف…ماذا تفعل؟.
لتردف أختها الصّغيرة مايا: صحيح.. ما عندك شغل غيره؟.
حزّ بنفسي الّسؤال وترك مجراه عميقاً.. كيف تكون حاضراً جسداً بين أهلك وأحبتك، ولكنّك غائبٌ عنهم روحاً وعقلاً ومشاعرَ؟، أنت بمكان آخر غير الذي تجلس فيه مع آخرين غير من تجالسهم جسداً.
أليس هذا الاستلاب الحقيقيّ والغربة التي تعني الفصام بكلّ ما يحمله من معان؟.
من دون شك أنّ هذا العالم الأزرق سلب منّا أكثر ممّا أعطانا وأظهر ما فينا من علل وأمراض كنّا نخفيها.. أو بالأصحّ، لم نكن نجرؤ على إظهارها كما نريد..لكنّنا اليوم، وقد جمعنا غريزة القطيع الإلكترونيّ صرنا نفاخر بما نحن عليه.
عللٌ اجتماعيٌّة كثيرة ٌطفت على سطح الأزرق هذا، وكان الغرب سبّاقاً باكتشافها والعمل على وضع تشريعات وحلول تحدّ من أثرها.
أمراض نفسيّة وتربويّة وجسديّة توقف الكثيرون عندها.. ولعلّ ظاهرة التّنمر هي الأكثر انتشاراً..التّنمر الاجتماعيّ والعلمي ّوالثقافيّ، وما في المصطلح من مشتقّات ومعانٍ.
وكلمة الّتنمر في أحد معانيها تعني فساد الخلق.. وقد جاء في معجم المعاني:
نَمِرَ: (فعل)
نمِرَ يَنمَر، نَمَراً ونُمْرَةً، فهو نمِرٌ، وهي نَمِرَةٌ وهو أَنْمَرُ، وهي نَمْرَاءُ والجمع: نُمْرٌ
نمِرَ الشَّخصُ:غضِب وساءَ خلُقُه فصار كالنَّمِر الغاضِب
نَمِرَ وجْهَهُ: غيَّرَهُ وعبَّسَه
نَمِرَ الشيءَ: لوَّنه بلون النَّمِر
نمِرَ الثَّوبُ: كان على شكل النّمر، بقعة بيضاء وأخرى على أي لون كان
نَمِرَ السَّحَابُ : صَارَ عَلَى لَوْنِ النَّمِرِ، أَيْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ بُقْعَةٌ بَيْضَاءُ وَأُخْرَى عَلَى أَيِّ لَوْنٍ كَانَ
وما نمَّروا: أي ما جمَّعوا من قومهم
نعم, فساد الخلق والغضب ,من هنا يمكن القول لمن يظنّ أنّها تعني العنف والقوّة كما النمر ..ليس هذا المعنى المقصود, بل معنى الفساد وسوء الأخلاق..
فالتّنمر الاجتماعيّ بهذا المعنى هو الأخلاقيّ، وبالمناسبة من يتصفّح مواقع الإنترنت فسيجدّ أنّ معظم المستخدمين في هذا الشّرق متنمّرون بطريقة تدلّ على نقص بكلّ شيء، من التربية إلى الثّقافة والقيم، وافتقاد روح الإنسانيّة والقدرة على الحوار واستيعاب الآخر، لسنا بصدد البحث عن أسبابها، لكن بالتأكيد يقف العاملُ الاجتماعيُّ والاقتصاديُّ، وضغوط الحياة والتشتت والضّياع في مقدّمة الأسباب.
ومن مظاهر التّنمر التي يمكن للمرء متابعتها، ولم يرصدها الباحثون التنمّر اللغويّ الذي هو أساس كلّ تنمر..
التّنمر اللغويّ من العاميّة إلى الفصحى, إلى كلّ ما على الصّفحات من منشورات وتعليقات, فعل وردود فعل, تدلّ على فساد لغتنا المستخدمة, وبالتالي يعني فساد ثقافتنا ويرسم خطوطاً عريضة لمجتمعنا, فلم يعد علماء الاجتماع في الغرب بحاجة إلى الانخراط في مجتمعاتنا لدراسة أحوالنا., نحن أمامهم ,بعجرنا وبجرنا من المحيط إلى الخليج ,عراة الكترونيّا ً..نقدّم كلّ شيء عن طيب خاطر.. حّى ماء الصّرف الصّحي يعرفون ماذا يحمل.
التّنمر اللغويّ ظاهرة ُعنفٍ تحمل في طياتها الكثير من القضايا التي يجب أن تعالج وأوّلها علاجنا النفسيّ نحن ..
فاللغة كائن حي ّ..هو نحن ,ونحن هو, لذلك دائماً نردد في البدء كان الكلمة ..والكلم فعل وجود …
الكلم يُحيي ,ويميت.. للكلمة قوّة خفيّة ,تعرفها وتشعر بها حين تسمع كلمة نشازاً خارج السّياق.
وذكر الشيء يعني استحضاره ألا نقول (اذكر الديب وهيء القضيب)
و نقول: ذلك المرض., عن الّسرطان , تتجنب ذكره حتى لا يحضر كما نظن ّ…ونقول (كش برة وبعيد )
وهل التمائم والمعوّذات منذ كانت إلى اليوم إلاّ اعترافاً ضمنيا ًمنّا أنّ للكلمة روحاً تشفي وتميت ..
التّنمر اللغويّ داء الجميع ..
من مظاهر هذا التّنمر في اللغة العربيّة التباهي بين المتحاورين أو المدردشين على الصّفحات الزّرقاء , كلّ منهم بلهجته العاميّة التي لا تكاد تعرف معنى منها , إلاّ إذا كنت من أبناء البلد نفسه , وربّما أحيانا ًفي الدّولة الواحدة تحمل المفردة أكثر من معنى <; ويختلف المعنى من بقعة جغرافيّة لأخرى , ومع ذلك ثمّة تنمّر فظيع , وقد ساعدت الدّراما بما تقدّمه من مسلسلات تستخدم العاميّة , ساعدت على ذلك، ولاسّيما في مواسم العرض الرمضانيّ , حيث تجد بعد بداية العرض بإسبوع من يتنطح للحديث عن لهجة هذا المسلسل أو ذاك ، فيرى لو أنّه استخدم اللهجة السوريّة مثلاً أو اللبنانيّة لكان أقرب إلى النّاس , بينما ينبرى آخرون إلى الدّعوة لتكون اللهجة المغاربيّة حاضرة، أمّا اللهجة الخليجيّة فقد غدت علامة بارزة في التسّويق الدّراميّ .
والّزجل والأغاني حاضران بقوّة في هذا التّنمر الذي إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أننا ما زلنا في جاهليّة بعيدة الغور , لانعرف كيف الخروج منها، تابع وقع أيّ حدث في أيّ قطر عربي، بل أيّ مدينة محليّة فستجد آلاف المنشورات المشحونة بطاقات التّنمر الّسلبي، وتتدافع التعليقات، ما بين مؤيد ومعارض حتى تتحول إلى قضيّة رأي ّعلى الصّفحات الاجتماعيّة .
ربّما يرى البعض أن ّهذا قد يقرّب المعاني بين اللهجات , ويجعلها فيما بعد تندمج فيما بينها, فيقلّ عددها , وتتهذب لتصبح أكثر قرباً من الفصيحة , لكنّ هذا ليس دقيقاً تماماً فقد سبق أن تنبّأ دارسو أثر المحطّات الفضائيّة العربيّة على اللغة العربيّة , وأشار بعضهم إلى أنّها سوف تعمل على تقريب اللهجات من بعضها البعض , وتجعل الفصيحة سيّدة الموقف , لكنّ الواقع دلّ على أنّ هذا لم يكن صحيحاً , لاسّيما مع ما سمي تلفزيون الواقع , وانتقال الكثير من المحطّات (المشبوهة ) للبثّ بالعاميّة الموغلة في الوحشيّة .
وبعضها ( المحطّات ) بحث في غريب اللهجات, وعمل على إحيائها , وذهب أبعد من ذلك, إذ كان يرفض أيّ لقاء لايكون بالعاميّة , هذا شرطه الأساس الذي يجب أن يكون حتى لتصل إلى هذه المحطّات , وفي المواقع الالكترونيّة والصّفحات الاجتماعيّة , الظّاهرة نفسها , الّتشجيع على خوض حروب حول اللهجات , بين أبناء القطر الواحد , واللهجة الواحدة, ومحاولة جعلها أكثر من لهجة , على مبدأ تقسيم المقسّم , حتّى يصبح ألف جزء , ومن خلال المتابعة والمراقبة والاشتراك بالنقاش الدّائر على الصّفحات الاجتماعيّة حول ذلك , كانت ردود الفعل مفزعة حتى من أقرب من أتعامل معهم : لماذا تكتب بالفصحى, ومن يفهم عليك , ولهجتك أنت ليست من ...أنت أخذت لهجة ....
عنف اجتماعي ّ,انتقل عبر اللغة إلى أن يكون وسيلة تخاطب وتقريع ولوم , ومن الطّريف أنّ بعض المفردات التي يستخدمها الكثيرون منّا , هي بالأصل فصيحة , لكن كثرة الاستخدام جعلتها تبدو وكأنّها عاميّة مثل (اصطفل , هلق , هالحين , هالحز ,هالسّاعة ..) جمل هي من النّحت كما أشار إلى ذلك الدكتور مسعود بوبو , ومن قبله حسن قطريب , وفي لهجة السّاحل السوري , ثمّة جمل منحوتة أيضاً,مثل (شحّاره , شحّ ميطته ) فمن المعروف أنّ الشح هو القلّ, والآر الدخان , فالجملة جاءت لتدلّ على القلّة والفقر , وشح ميطه ,قريبة من المعنى نفسه , الميط, بمعنى الّزاد ...
نعم، لقد غدت الصّفحات الزّرقاء بؤرة للتنابذ والّتراشق بلوثة اللهجات المحليّة والقطريّة، وغدا الّتنمر ظاهرة ًلابدّ من معالجتها , وهذا ليس بالأمر السّهل أو الهيّن، ببساطة: لقد غدا التنمّر اللغويُّ داءَ الجميعِ.