الثورة _ هفاف ميهوب:
لأن المقاومة كانت ومازالت، اللغة الأقوى والأقدر على مواجهة وصدّ الاحتلال، الذي اغتصب ودمّر الأرض الفلسطينية، ولأنها بحاجة دائمة لمن يرفدها بما يوقد حماستها، ويزيد من اتّقاد أهدافها وتأثيراتها الناريّة.. لأنها كذلك، كان للثقافة والأدب دورهما الأشدّ فعالية، من كلّ القوانين التي تشرّعنها الأمم المتحدة، ويتقبّلها مجلس الأمن الدولي، ومن خلال الكلمة التي تستمدّ قوّتها، من حبرِ الأرض التي ارتوت بدماءٍ جعلتها تكتب أدباً وشعراً غاضباً، بل أكثر تأثيراً من كلّ أسلحة وآليات الموت، التي يستخدمها العدوّ الصهيوني. .
كلّ ذلك، جعل الأدب الفلسطيني، لايتوقف عن إطلاق حممِ كلماته، تشحذ الهمم، وتشعل النقمة على المحتل، وتندّد بهمجيّته، وتعطّشه لهدرِ ما أمكن من الدم ..
إنه ما شهدناه على مدى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولا نزال نشهده، ولاسيما في هذه الأيام التي تفاقم فيها إجرامه، وخصوصاً على قطاع غزة، حيث سال حبر الأرض دماً، أوقد الكلمات المقاتلة، وأشعل الحماسة والغضب لدى المبدعين.. الحماسة لإطلاق رصاص الكلمات، على مغتصب أرضهم وقاتل شعبهم، والغضب بسبب عجزهم، إلا عن إشعال مفرداتهم بوجعهم.. الوجع ذاته الذي جعل الشاعر والكاتب الأكاديمي “عبد الله عيسى” يقول ضمن حوارٍ، وعلى إذاعة “صوتِ العرب”:
“.. غزّة اليوم، وقبلها جنّين ونابلس، وقبلهما القدس، بل وفلسطين كاملة، منذ نكبتها الأولى، تُلقي بنا قبالة التاريخ دفعة واحدة. وقد قلنا من قبل، إنّنا نحن التاريخ، وهم أعداؤنا.. العابرون، الطارئون على أرضنا، روايةٌ غريبةٌ تقطن في سِفر أيامنا عنوة، خلسة عن الأبديّة التي شاركنا في جعل بدايتها ممكنة..
لم يعد هذا المشهد الدمويّ، الذي لا مثيل له في ذاكرة التاريخ، ملتبساً.. كلّ شيء بسيط مثل ابتسامةٍ تلقيها مودّة على جاركَ، خشية أن يخطف الموت أحدكما في غفلةٍ عن الآخر.. كلّ شيءٍ واضح، مثل قبلةٍ على جبين شهيد.
يا إخوة التراب لا تكونوا إخوة الموت علينا!.. تنادي غزة، وفلسطين كاملة قبلها، فيما نجتهد بتحليلِ ما قد يأخذ الغد منها، وكأنّنا أشبه بأكاديميين، نتأمّل في صدى أنّة تحت الركام، كي نروي ما تبقّى منها، كواقعة تصلح لساردي الأحاديث، وتسكن في مخيّلات مريدي أخبار الأوّلين، بوجه ضحيّة غير ملتبسة.
لكنّنا لم نكن ندري أنّها فرّت من الزمن الرديء هذا كي تقيم في الأزليّة دوننا”..
نعم، هو صوت الوجع، وإن تأوّهت كلماته، إلا أنه يأبى أن يبقى يندب معاناته، ويأبى إلا أن يضمّد جرحه بحرفه، وهو مافعله الأديب “نصار إبراهيم”، عندما وصفَ جولة الحرب الجديدة، والموت الذي يشيّعه كلام، يصلّي لقدرته على ترتيل الحياة، حتى تحت القصف والركام:
“.. حربٌ وحشية جديدة، جولةُ اشتباكٍ جديدة، دمارٌ عظيم، صمودٌ عظيم.. آلاف الشهداء يصعدون إلى مجدهم.
في زمن المواجهة، تتجاوز غزة الدموع والألم والفجيعة، وتواصل المجالدة والوفاء لفكرة ناظمة: لا تمت إلا وأنت ندُّ!.. إيّاكم والموت المجانيّ!.
هكذا تردّ غزة على معادلاتِ الموت غير الطبيعي، وغير المنطقي، بفرضِ معادلاتها الصارمة. غزة ليست ميدان تدريب للرماية، ولا تقبل معادلة الموت المجاني.
لكن، وكي لا تبقى غزة تقاوم وحدها، يجب أن تصبح معادلتها هذه، هي ذاتها معادلة شعب فلسطين، أينما كان.. بهذا تزهر معادلات غزة الباسلة، لتصنع من نفقٍ في الرمال، أفقاً لوطنٍ مشتهى..”..