ديب علي حسن:
ما إن تُذكر هذه المقولة (الكتابة عمل انقلابي) حتى يقفز إلى الذهن مباشرة الشاعر العربي الكبير الراحل نزار قباني- قائلها، والشاعر الذي نذر عمره لتكون الكتابة فعلاً انقلابياً حقيقياً منذ مجموعته الأولى “قالت لي السمراء”.
إلى كل ما قدمه وأنجزه في مشروعه الإبداعي شعراً ونثراً، وهو المبدع في النثر كما في الشعر وصاحب المقالات الصحفية التي ما زالت ندية خضراء.
نزار قباني شاعر استشرافي أيضاً..
من الكتب المهمة الجيدة التي صدرت عن اتحاد الكتاب العرب وأعده الدكتور فاروق اسليم كتاب (الكتابة عمل انقلابي)، وهو مجموعة مقالات نشرت في مجلة الأسبوع العربي ما بين ١٩٧٣/١٩٧٥، اختار المقالات وقدم لها، كما أسلفنا الدكتور فاروق اسليم.
يقع الكتاب في ٢٤٠ صفحة من القطع المتوسط، قدم له اسليم تحت عنوان: “مواقف للمقاومة والتحرير”،
ومن المقالات المهمة نشير إلى “هم يقتلون الخيول _ عن الحرية، كان ولدي فصار ولدكم.. عيد ميلاد جرح.. استقالة الشيطان.. كيسنجر قيصرا. شوربة الوزير.. نعم نحن مشاكسون.. الخروج من ألف ليلة وليلة.. الأولاد الفلسطينيون ينالون الدكتوراه.. الوردة والمسدس.. كولومبوس يهرب من واشنطن.
ولابد من الإشارة إلى أنه على الرغم من أن اللقب الأكثر التصاقاً بنزار قباني إنه شاعر المرأة, لكن الحقيقة أنه شاعر سياسي بامتياز, شاعر انقلابي على كل شيء، يؤمن بأن الهدم وسيلة للبناء, هدم الآسن والمتهرئ, والعمل على بنى جديدة.
نزار قباني الشاعر الذي اختلف النقاد في تصنيفه, هذا الشاعر الانقلابي يبدو مترعاً بالهم العربي سياسياً واجتماعياً وتاريخياً، كما لو أنه يحمل على كتفيه وكاهله آلام وآمال هذه الأمة.
في شعره السياسي يقرأ القادم كما لو أنه يتلو من كتاب, فمن يقف على عناوين مجموعته السياسية والتي تبدأ من المجلد الثالث سيقع على كل ما للشاعر من رؤى استشرافية, ممزوجة بالألم والغضب, محطمة كل الرموز والأصنام.
وحين تقرأ قصيدته: “مرسوم بإقالة خالد بن الوليد” ستجد الواقع المر أمامك, كل شيء صار حقيقة وواقعاً سواء بيننا (نحن العرب), أو من خلال ما يقدم عليه المترفون العرب, وما أشار إليه ليس إلا رأس جبل الجليد الذي ظهر وظهر:
سرقوا منا الزمان العربي
سرقوا فاطمة الزهراء من بيت النبي
يا صلاح الدين باعوا النسخة الأولى من القرآن باعوا الحزن في عين علي
يا صلاح الدين باعوك وباعونا جميعاً في مزاد العلني
وما أشبه ما يحدث اليوم بما قرأه في صفحات الغيب, في هذا الزمن الرديء ممنوع على العربي أن يشعر أنه حر, أنه صاحب أرض ووطن يقول نزار قباني:
سرقوا منا الطموح العربي
عزلوا خالد في أعقاب فتح الشام سموه سفيراً في جنيف
يلبس القبعة السوداء يستمتع بالسيجار والكافيار
يرغي بالفرنسية يمشي بين شقراوات أوربا كديك ورقي
اليوم تصدق نبوءات الشاعر الرائي نزار قباني، ولعل أولها أن الأطفال هم من سيعيدون المستقبل وهم الآن في غزة يرسمون الغد..
كان حاداً في الكثير مما كتب لكن من أجل كرامة الأمة.
ومن قصيدته يا تلاميذ غزة نقتطف
«يا تلاميذ غزة
يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا
علمونا بأن نكون رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجينا
علمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماساً ثمينا
كيف تغدو دراجة الطفل لغماً وشريط الحرير يغدو كمينا
كيف مصاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحولت سكينا
يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمة الجيش فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحاً ويتامى لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا
يا تلاميذ غزة لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرؤونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القات السياسي والقمع ونبنى مقابر وسجونا
حررونا من عقدة الخوف فينا وطردوا من رؤوسنا الأفيونا
علمونا فن التشبث بالأرض ولا تتركوا المسيح حزينا
يا أحباءنا الصغار سلاماً جعل الله يومكم ياسمينا
من شقوق الأرض طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر فكونوا على الشفاه لحونا
أمطرونا بطولة وشموخاً واغسلونا من قبحنا اغسلونا
إن هذا العصر اليهودي وهم سوف ينهار لو ملكنا اليقينا
يا مجانين غزة ألف أهلاً بالمجانين إن هم حررونا
إن عصر العقل السياسي ولّى من زمان فعلمونا الجنونا