الثورة : ثناء أبودقن:
على أرصفة الأسواق، وسط ضجيج البائعين حيث تمرّ الخطا مسرعةً وتتعانق الأصوات، تقف بائعات البسطات بثباتٍ يشبه جذور الأرض.

وجوههن القمحية.. أنضجتها الشمس، وإبتسامتهن حكاية كفاح لا تنطفئ، تفرش إحداهن قماشها البسيط، ترتب عليه ما جادت به يداها، سلال فاكهة، جبنة ولبنة ، أو خبز خرج للتو من الفرن.
هنا وفي الإطار العام للأسواق ومواقف السيارات والأرصفة والكراجات، لا يكاد يخلو متر واحد من دون أن ترى بسطات متلاصقة لبائعين معظمهم من النساء، في مشهد فوضوي حيناً، ومزعج أحياناً أخرى لطالما لا تترك للمارة مجالاً للعبور منه، غير أنه في الوجه الآخر للمشهد ، تشي بصخب ونبض قاع الحياة السورية بأدق صورها وتفاصيلها.
ترنو العيون، تتأمل، تساوم، وقد لا تشتري لكنّها لا تدرك أن وراء كلّ قطعة صغيرة أسرة تنتظر، وأن خلف كلّ نداءٍ متعب قلباً يرجو الله الرزق.
حكايا النساء
ومع تقريب الزوم على هذا الواقع تنكشف الخبايا وتتضح الصور، وتتابع اللقطات تناقضاتها المتنافرة لنساء سوريات ، تقاسمن الوجع والألم والظروف المعيشية الصعبة، إذ تظهر القصص المخفية وراء كلّ بسطة أو صندوق أو أكياس خضرة ،جلست خلفه أُنثى لتسترزق، تحكي خشونة يديها قصتها، ولكلّ يد قصة ولكل قصة امرأة.
باعت بيتها طلباً للرزق فخسرت زوجها

كريمة سويعان (46 سنة) بائعة دبس بندورة ورمان: ورثت عن والدها بيتاً بسيطاً في إحدى ضواحي دمشق..وفي الظروف الماضية وخروج معظم الورشات عن العمل ، بات زوجها بلا عمل لفترة طويلة، وأصبح تأمين متطلبات البيت هماً يومياً لا يطاق ،ولم يعد لديهم أي حل لهذا الوضع سوى بيع البيت لاستثماره في أي مشروع ينتشلهم من الفقر والحاجة وينقلهم إلى واقع معيشي أفضل.
لكن الزوج ولضرورة تأمين البضاعة من محافظة سورية أخرى ..أخذ الأموال كلها ولم يعد، وبعد رحلة بحث طويلة منها ومن بعض الأقارب عرفت أن جثته في براد أحد المشافي تنتظر من يتعرف عليها أحد.
فقد وجد مقتولاً ومرمياً على الطريق، مجرداً من جميع الوثائق والأوراق والأموال، من دون أي دليل على الفاعل.
ومع غياب المعيل استعانت بالبسطة لتكون ملاذها لتأمين معيشتها.
فيما شهيرة ضاحي( 70سنة) بائعة ألبان وأجبان، عرفت بحضورها الشعبي المرح الصاخب أينما حلّت، تفرش خضراواتها وبضاعتها على أكياس النايلون ،وإبتسامتها لا تفارق وجهها القمحي المحروق.
ورغم التجاعيد العميقة التي حفرتها سنونوها السبعين ، فقد بقيت مبتسمة متفائلة حتى سميت بأم البائعين، وبعدما تزوج من تزوج ومات من مات من أولادها، بقيت شهيرة ضاحي مع أحفادها لتكون المعيلة الوحيدة لهم فقط ، ورغم قسوة الظروف، زادت عزيمتها وقدرتها على تحمل المصاعب ، حيث باعت قطعة المصاغ الوحيدة التي تملكها واشترت بثمنها بقرتين من أجل تصنيع الأجبان والألبان.
وصارت بضاعتها رائجة لجودتها وطعمها الجيد، وهكذا أعالت نفسها وأحفادها، واستطاعت نوعاً ما أن تدبر شؤون معيشتها.
ضاحي أكدت وبشيء من اليقين أن بقراتها ساعدوها أكتر من الأهل والأقارب والأصحاب)، وقالت مداعبة زبائنها.. من يشتري مني اللبنة لن ينسى طعمتها.
غدر بها العم .. فتلقفتها البسطة

صباح الحمداني ( بائعة مكياج وأدوات زينة ) صبية تهدم منزل عائلتها ومات والداها بقذيفة في الغوطة الشرقية ولم يبق لها سوى أخت وأخ في مقتبل العمر، وبحجة أنهم مهجرون وبحاجة إلى منزل باع عمها كل ما خلفه لهم والدهم وكل ما بحوزتهم وسافر خارج البلد، تاركاً إياهم بلا معيل ولا مال.
يتنقلون بين بيوت الأهل والأقارب، حتى وجدت البسطة لتكون وسيلتها للعيش.
نموذج للكفاح
الاخصائية الاجتماعية صفا النونو وبناء على ماتقدّم تشير أنه يُنظر إلى بائعات البسطات كنموذج للكفاح والصبر، ووجودهن يعكس روح الاعتماد على النفس رغم التحديات.
هنّ نساء الحياة الواقعية، لا يعرفن المكاتب ولا الأوامر المكتوبة، والكثير من هؤلاء النسوة يعتمدن على هذا العمل كمصدر رزق رئيسي لإعالة أسرهن، خاصة في ظلّ الظروف الإقتصادية الصعبة أو البطالة.
فبائعات البسطات يشكلن جزءاً مهماً من الاقتصاد غير الرسمي في بلدنا، ويساهمن في توفير السلع بأسعار معقولة للمجتمع، وهن غالباً من فئات محدودة الدخل، حيث يعملن لإعالة أسرهن بعد وفاة الأب أوالزوج أو بطالته، أو لمساعدة العائلة في تغطية نفقات الحياة اليومية.
وبينت النونو أن البيع على البسطات يعتبر عملاً غير مرخص رسمياً، ما قد يؤدي إلى مصادرة البضائع أو فرض غرامات.
لاشك أن هؤلاء النسوة يعملن في ظروف مناخية صعبة من “حرارة، برد، مطر”، إضافة إلى غياب الاستقرار والدخل الثابت. ولا ننسى أيضاً تعرضهن للمضايقات أوبعض الإساءات من المارة، أو البائعين في السوق .
ومع ذلك توضح النونو أن هناك بعض المبادرات الحكومية والمجتمعية التي تهدف إلى تنظيم عمل البائعات وتوفير أماكن مخصصة لهن.
هكذا تتوالى الحكايا لنساء كثيرات صغرت أعمارهن أم كبرت، بالرغم من آلامهن ومعاناتهن، إلا أنهن مع قساوة التفاصيل، آثرن الجلوس وراء البسطات في الساحات والأرصفة وجهاً لوجه أمام التحديات، ما يعني أن كل النساء السوريات عاملات.