الثورة- تحقيق لينا إسماعيل:
إن ظاهرة الغش الغذائي التي لطالما وقفنا عند شواهدها سابقاً، تعود لتنشط من جديد، إن لم نقل إنها لم تتوقف أصلاً، خاصة في الأحياء الشعبية، بسبب بعدها عن دائرة الرقابة التموينية، وحاجة الناس لما توفره من مواد غذائية بأسعار تصل إلى نصف أسعار المواد ذاتها في محلات الأحياء الأخرى، خاصة اللحوم التي تستوعب مساحة واسعة من الغش، وكذلك زيت الزيتون والشوكولا السائلة، والعصائر ومشتقات الألبان وغيرها.
في هذا التحقيق نتابع واقع حال السلع الغذائية، وطرق بيعها، وأساليب الغش فيها، ودور الجهات المعنية بمراقبة عملية البيع والشراء.

مشاهدات ميدانية
وصلتنا شكاوى كثيرة حول مواد غذائية، وقع العديد من المستهلكين في فخ أسعارها الزهيدة، وتبين لهم أنها منتهية الصلاحية، أو أنها فاسدة، وهذا لايعني أن الأسعار المرتفعة للمواد الغذائية تحمل صك براءتها من الغش، فقد تكون أساليب الغش فيها أكثر تمرساً وضرراً، وهو ما كشفته جولات عديدة للرقابة التموينية في أشهر الأحياء الدمشقية، فما بالكم بما يُضخ في الأسواق الشعبية بضواحي المدن السورية وأريافها؟!.
في باب سريجة، بقلب العاصمة دمشق، وخلال جولة “الثورة” الميدانية لاحظنا وجود أسعار متفاوتة بشكل كبير بين المواد الغذائية ذاتها، فعلى سبيل المثال سعر كيلو اللبنة على الرصيف 13000 ليرة سورية، في حين وصل إلى 40000 ليرة في بقاليات السوق ذاته.
والسبب، بحسب أحد الباعة الذي افترش مدخل السوق بكميات قليلة من الألبان والأجبان، هو عدم دفعهم إيجار محل ولا ضرائب.
والمواد يستجرها من ربات بيوت مستورة، وهي مضمونة الصنع، في حين أضاف بائع متجول آخر أنه يشتري من مصانع معروفة الاسم، لكنه يستجرها تحت مسمى (فرط) من دون ذكر اسم الشركة أو المصنع وتكاليف التعبئة والتغليف ولذلك فهي أقل سعراً.
ولدى سؤالنا إحدى السيدات اللواتي تجمعن حوله للشراء عن جودة اللبنة والجبنة التي تشتريها أوضحت أنها قد لاتضاهي طعم الشركات الغذائية المعروفة، لكنها تفي بالغرض لأصحاب الدخل المحدود، ذلك أن سعر كيلو الجبنة البيضاء يصل في المحلات إلى 45000 ليرة سورية، في حين تباع على الرصيف بسعر 20000 ليرة .
غذاء فاسد وضمير غائب
“نشتري الأرخص لأن الدخل لايحتمل، تقول السيدة سناء عبود التي التقيناها في سوق الديارنة بجديدة عرطوز بريف دمشق، مضيفة: إن المواد (الفرط) التي تباع من سيدات فلاحات تبدو أفضل من منتجات الشركات الكبرى.
وتساءلت: لماذا لايتم ضبط الأسعار، بحيث تكون مناسبة لكافة الشرائح، مع المحافظة على جودة المنتج!
أحد المواطنين اكتشف أن الجبنة المشللة التي اشتراها بسعر 30 ألف ليرة للكيلو غرام من سيارة متنقلة تحولت إلى سائل أصفر بمجرد غسلها بالماء!.. هكذا يجد المواطن نفسه ضحية الغلاء أو الغش.

لدى سؤالنا أحد باعة السيارات المتنقلة في بلدة المعضمية عن مصدر مواده الغذائية، من حلاوة طحينية ودبس رمان وأجبان ولبنة وزيتون، أوضح أنه يشتريها من ورشات عمل في البيوت.
وأضاف: هذا لاينفي وجود بعض المصنعين الذين يغشون الأطعمة بمواد ضارة بالصحة، وصارحنا بأن البعض منهم يضع مواد كيميائية تستخدم بالدهان في صناعة الجبنة والحلاوة الطحينية.
وفي أسواق صحنايا والمعضمية سألنا عن مصدر مواد غذائية (فرط)، عليها إقبال كبير كونها تباع بسعر أقل، فامتنع أكثرهم عن الإجابة، فيما أوضح البعض منهم أن أغلبها بالفعل من مصانع ذائعة الصيت، لكنها تضخ كميات كبيرة من دون تعبئة وتغليف ومواد حافظة للمحلات، وتالياً بأسعار أقل، وبشكل يومي، نظراً للإقبال الكبير عليها، وبالتالي فهي تسوّق وتربح من دون أن تؤثر في اسمها اللامع بالسوق.
في المحلات أغلى
لاحظنا أن الأسعار أكثر ارتفاعاً في المحال لتحقيق هامش ربح أكبر لأصحابها، ولكنها تبقى أقل سعراً من العبوات التي تحمل اسم الشركة المصنعة.
عدد من أصحاب البقاليات أخبرونا أن هناك، بالفعل، مواد غذائية لديهم تسوقها ربات البيوت لتحسين دخلهن المعيشي، كدبس البندورة ودبس الفليلفة، ودبس الرمان، والسمنة الحيوانية والنباتية، والمربيات والعصائر، كشراب التوت والكرز والتمر هندي، كما تعمل الكثير من المحال منذ عدة سنوات على توفير المونة المجمدة في ثلاجاتها بأسعار مرتفعة جداً نظراً لتعذر الاحتفاظ بها في البيوت لشح التغذية الكهربائية.
ومع تقديرنا لكل من يسعى لتحسين دخله بالعمل الحر الذي قد يفوق بجودته فعلاً المصانع المتخصصة، إلا أن الرقابة المخبرية ودوائر حماية المستهلك هي من تحسم مدى جودة هذه المنتجات الغذائية، سواء الفرط منها أو التي تحمل اسم شركات كبرى ومعروفة.
وإلا من يتحمل مسؤولية مستوى ومواصفات جودة هذه المواد الغذائية؟ وهل تخضع للفحص والتدقيق بمكوناتها وتاريخ صلاحيتها، والكشف على أماكن التصنيع، ومدى توفر الشروط الصحية فيها؟.

الدولار وارتفاع الأسعار
“الثورة” توجهت إلى وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وسألت عن أسباب تفاوت الأسعار وكانت الإجابات التالية: فيما يخص اختلاف أسعار المواد المطروحة في الأسواق، فذلك يعود إلى سعر صرف الدولار، ذلك أن استقراره يؤدي لاستقرار السوق، أما ارتفاع سعر الصرف وانخفاضه فيؤديان لتذبذبات في السوق، علماً أن سعره مازال مرتفعاً نوعاً ما، ولم ينخفض للحد المطلوب الذي يشعر معه المواطن بتغير الأسعار.
وأضافت: نحن لدينا دائرة تقوم بسبر الأسعار في جميع المحافظات، وهناك سعر تأشيري بأن المواد شبه متقاربة بأسعارها في معظم المحافظات، إلا أن بعض المواد تتم متابعتها من قبل دائرة الأسعار ودائرة حماية المستهلك في المديريات المعنية حسب السعر التأشيري للمواد في المحافظات.
أما بالنسبة للفروقات السعرية، فهي موجودة، ولكن تعمل الدوريات على متابعتها من خلال نشرات تسعيرية من سوق الهال ومحلات الجملة، ومقارنتها بأسعار المفرق، وفي حال كان هناك تسعيرة أو بيع بسعر فاحش، أكثر من الحد المتعارف عليه في السوق، يتم تنظيم ضبوط وإحالتهم إلى اللجنة القضائية، أو اللجنة المختصة في الوزارة، وعلى سبيل المثال تم الشهر الماضي تشميع أكثر من عشرة محلات بيع خضار وفواكه، ومحال سوبر ماركت تقوم ببيع المواد بأسعار زائدة، وربح زائد عن الربح المعتاد في السوق، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم.
لا احتكار للمواد
ولدى سؤالنا عن الانعكاس المحدود على الأسواق الداخلية نتيجة انفتاح سوريا على الأسواق الخارجية مؤخراً، وانخفاض سعر الصرف نسبياً على الأسواق السورية، كان رد الوزارة أن المواد متوفرة بشكل كبير في الأسواق، وبماركات متعددة، ومتنوعة بكافة الأصناف، ولا يوجد أي احتكار أو نقص في هذه المواد، ولكن العمالة، وأجور المحال تلعب دوراً كبيراً في ارتفاع الأسعار، وتختلف من مدينة لأخرى، ولذلك هناك سعر تأشيري تتم متابعته بشكل يومي من قبل الدوريات، حيث يتم التدقيق على الإعلان عن الأسعار بشكل واضح في المحال، ومن خلال ذلك يتم التنافس في السعر المعلن، وفي حال كان السعر المعلن أو البيع بأعلى من السعر الرائج والأسعار المتداولة في السوق الواحد، يتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين.
وهذا يعني أن كل مادة لها سعرها الرائج في السوق، ومن خلال هذا السعر الرائج تتم المتابعة من قبل الدوريات.

ضبط حركة الأسواق
وعن إجراءات ضبط حركة الأسواق، أوضحت الوزارة أنها وضعت خطة عملية لمنع الاحتكار، فالمواد متوفرة بشكل كبير وبماركات عديدة وأصناف محلية ومستوردة، ولذلك لايوجد هناك احتكار.
والإجراءات القانونية التي تتخذها الوزارة من شأنها تنظيم السوق وتنظيم العملية التجارية ضمن الأسواق بهدف خفض الأسعار، وتوفير المنتج بجودة أفضل، والوصول إلى تجارة حرة ونزيهة من قبل الإخوة التجار، كما تسعى الوزارة جاهدة لإصدار القرارات التي من شأنها أن تنظم عمل الأسواق وتنظم عملية البيع بين التجار والمنتجين والمستوردين والمستهلكين، والتي تهدف إلى حماية كل من المستهلك والتاجر في ٱن واحد، والهدف هو الوصول إلى أسواق عادلة نظيفة، تتاح فيها فرص النجاح لكافة المنتجين والمستثمرين في سورية، وتوفير فرص عمل متساوية أمام الجميع.
إجراءات رقابية
ومتابعة للشكاوى التي وصلتنا حول غياب دور الرقابة الصحية على المواد الغذائية، ومعالجة غلاء الأسعار وتفاوتها، التقينا مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في دمشق “غياث بكور” الذي أوضح لـ”الثورة” أنه وبشكل يومي لديهم أكثر من 20 دورية في مدينة دمشق على جميع الفعاليات التجارية والصناعية، وعلى الأفران، صباحية ومسائية، تقوم بمراقبة الأسعار والفواتير وجميع المنتجات المطروحة في الأسواق.
كما يوجد مع الدوريات مراقبون صحيون من أجل فحص الغذاء، والتأكد من سلامته، وفي حال الشك في أي مادة يتم سحب عينات للتأكد من مدى مطابقتها للقرارات والمواصفات القياسية السورية، والتأكد من سلامتها.
أما عن عدد الضبوط المسطرة بحق المخالفين، فقد أجاب بكور أنه بلغ عدد الضبوط حتى نهاية الشهر التاسع 4890 ضبطاً تموينياً بمخالفات متنوعة، منها عدم الإعلان عن الأسعار والفواتير والاشتراطات الصحية، وسلامة الغذاء، ولحوم فاسدة وغيرها، كما تم سحب 1560 عينة من الأسواق من جميع المواد الغذائية وغير الغذائية للتأكد من مدى مطابقتها للقرارات والمواصفات القياسية السورية، والتأكد من سلامتها صحياً، وتم إغلاق أكثر من 30 محلاً ومطعماً لارتكابها مخالفات جسيمة، وإحالة 59 حالة إلى القضاء.
أسعار محررة
وفيما يتعلق بفروقات الأسعار للمادة ذاتها بين محل وآخر، ومنطقة وأخرى، أوضح مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك أن الأسعار محررة، والوزارة لم تقم بتسعير إلا بعض المواد الأساسية، ولكن المواطن يختار السعر الأنسب والأكثر جودة، وفي حال كان الربح فاحشاً من خلال تدقيق الفواتير، وسبر الأسعار التأسيسي للمواد في محلات الجملة، وأسواق الهال، يتم تنظيم ضبط بحق المخالف، واتخاذ الإجراءات القانونية.
وقد تم تشميع أكثر من عشرة محلات لأنها تبيع بأسعار عالية، ورغم تأكيد الوزارة على خططها لأسواق نظيفة وعادلة، إلا أن رقعة الغش الغذائي تتسع ريفاً ومدينة، والواقع يروي حكاية أخرى في ظل النقص في عدد المراقبين.
ويبقى الرهان على صحوة ضمير من اعتادوا الغش مصدراً للربح، إن لم تقابله مراقبة ومحاسبة رادعة، ورفع الوعي الاستهلاكي العام بالتوازي مع تثبيت أسعار منطقية للمواد الغذائية في الأسواق كي لايجد المواطن نفسه مضطراً للمغامرة بصحته وصحة عياله بحثاً عن سد الرمق بالسعر الأرخص، فهل نعي خطورة هذا الواقع؟!.
