التشبيح المخملي الذي جَمَّل براميل الأسد .. حين صار الفن أداة قتل

سلطان الكنج – كاتب سوري:

مع اندلاع الحرب التي شنّها نظام الأسد ضد الشعب السوري، الذي ثار عليه، تداخلت أدوات القتل وتنوّعت، فهو لم يقتل السوريين فقط بالقذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة، ولا بالحصار والتجويع والاعتقال، بل كان هناك قتل آخر أكثر صمتاً، وأشد ألماً: قتل بالكلمة والصورة والنغمة. ذلك هو “التشبيح الناعم” الذي مارسته طبقة من الفنانين والممثلين والإعلاميين الذين سخّروا شهرتهم وأضواءهم لتجميل وجه القاتل، وتغطية جريمة النظام بمساحيق الفن والثقافة.

كانت تلك الطبقة، جزءاً من ماكينة النظام الناعمة. استخدمها الأسد ليقول للعالم إن حربه لم تكن ضد شعبه، بل ضد “الإرهاب” و”الظلاميين”. استضافتهم القنوات العربية في البرامج الحوارية، وقدّمهم الإعلام على أنهم “صوت العقل” و”رمز الدولة المدنية” في مواجهة “المجموعات المتوحشة القادمة من الكهوف”. تحدثوا بثقة عن “دولة الياسمين” “دولة الأسد الوحشية” المنفتحة على الفن والحياة زوراً، بينما كانت البراميل تمطر المدن السورية، وتحيل الأحياء إلى رماد.

كانوا يقولون إن النظام يحارب من أجل “ثقافة الجمال” في مواجهة “قبح الإرهاب”. في الوقت الذي كانت الأمهات يدفن أبناءهن تحت الركام، كان هؤلاء يبتسمون على الشاشات ويغنون لـ”الجيش الباسل”.

لقد مارس النظام عبر هذه الطبقة نوعاً من التسويق التجميلي لإجرامه. جعل من بعض الفنانين واجهة حضارية تبرر القمع، ومن بعض الممثلين رموزاً لتزيف الحقيقة، ومن بعض الكتّاب والمثقفين أدواتٍ لغسل الدم بالكلمات. كانت الأعمال الدرامية تُنتج لتعيد كتابة الرواية الرسمية: الثورة “مؤامرة”، والمقاتل الحر “إرهابي”، والضابط القاتل “بطل”.

وفي لغة السينما والمسرح استُخدمت لتثبيت الفكرة ذاتها: أن سوريا الأسد كانت “جنة مفقودة” اجتاحها البرابرة، وأن الأسد وحده القادر على إعادة النظام والجمال إلى الأرض الخراب.

ولم يكتفِ هؤلاء بتزيين الجريمة، بل راحوا يتهكمون على معاناة الناس في المخيمات، ويقدّمونها على أنها “ضريبة الخيانة”. كانوا يسخرون من النازحين، ويصفون اللاجئين بأنهم “باعوا الوطن”. لم يتركوا مساحة للتعاطف أو الصمت حتى، بل تحوّلوا إلى أبواق دعائية تفوق في قسوتها أجهزة الأمن.

كان ما فعلوه أخطر من البراميل، لأنهم جعلوا الجريمة بطولة وطنية. فمن يشاهد ممثلاً محبوباً خارج سوريا، يتحدث عن “محاربة الإرهاب” يصدق السردية أكثر مما يصدق خبراً في النشرات.

وبعد انتصار الثورة وإسقاط النظام، لم يُظهروا أي ندم. لم يعتذروا، ولم يراجعوا مواقفهم، بل ما زالوا حتى اليوم يلمزون الثورة ويهزؤون بسوريا الجديدة. يتحدثون عن “العيش المشترك” و”الوحدة الوطنية”، كأن شيئاً لم يحدث، وكأن ملايين الضحايا كانوا مجرد مشهد عابر في مسلسل طويل.

لا يعرفون ثقافة الاعتذار، لأنهم تعلّموا فقط منطق البسطار العسكري. بل تحول بعضهم اليوم.. ويا للمفارقة إلى مفكرين ينظرون كيف يجب أن تكون الدولة وكيف يجب أن تكون سوريا وهم بهذه الثورة ومن خلالها تمكنوا من تنفس الحرية التي حاربوها وشوهوا أهلها.

كثير منهم الآن يظهرون وكأنهم فلاسفة التنوير والتثقيف وكأنهم لم يفعلوا شيئاً. إنها صلافة عجيبة. تلك الأدران التي اقترفوها جراء تجميلهم لإجرام النظام لا تستطيع تطهيرها كل كتب فلاسفة ومفكري التنوير.

هم لم يرموا براميل ولا أطلقوا قذائف الدبابات، لكنهم جملوا أداة القتل وصورة القاتل وشوهوا الضحية، وتلك جريمة أخلاقية يجب أن يكون عقابها أخلاقياً بمعنى العزل والنبذ وألا يحظوا بالاحتفاء ويعيشوا حياتهم مثل أي مواطن سوري له حقوق وعليه واجبات. لكن لابد من العقاب الأخلاقي.

ورغم كل تشبيحهم وتزييفهم، فإن الثورة السورية عندما انتصرت وأسقطت النظام، أظهرت نُبلاً أخلاقياً عظيماً. لم تُقم المشانق، ولم تُصدر أحكاماً انتقامية، بل فتحت باب الوطن للجميع. لم تنتقم الثورة من الفنانين الذين خانوا ضميرهم، لكنها لم تنسَ ما فعلوه. حافظت على أخلاقها، لكنها احتفظت بحقها في الذاكرة.

المحاسبة الأخلاقية هنا لا تعني النفي ولا الإقصاء، بل العزل الرمزي: ألا يُكرَّم من جمل القاتل، وألا يُحتفى بمن رقص على جراح الناس. أن يُمنع من المنابر من خان ضمير الكلمة، ومن شوّه الحقيقة تحت اسم الفن. هذا أضعف الإيمان، لكنه مؤلمٌ في أثره عليهم، حيث إنهم طوال سنوات حرب النظام على السوريين مارسوا حرباً ضد الضحايا من خلال تجميل قاتلهم وتسفيه المعاناة والدعاية للنظام وهذا كان يؤذي السوريين نفسياً لا يقل عن الإيذاء الجسدي في بعض الأحيان. لذا يجب أن يمارس السوريون تجاههم نفس الأسلوب من خلال عزلهم ومعاقبتهم أخلاقياً وهم يبقون سوريين وهذه ليست منّة بل حق لهم ولهم ما للسوريين.

سوريا الجديدة لا تريد الانتقام، وهي بعيدة عن الثأر، لكنهم لم يحمدوا ربهم ويشكروا الثورة على هذا التسامح.

هم في نعمة، وهي نعمة الثورة المتسامحة التي قالت: اذهبوا فأنتم أحرار، وكان لها حق أن تطبق العدالة لكنها تنازلت عن هذا الحق من أجل مصلحة عليا لسوريا وشعبها بكل ألوانه ومشاربه.

وفي النهاية، سيبقى السوريون يتذكرون أن بين من قتلهم من حمل سلاحاً، ومن حمل كاميرا أو ميكروفوناً أو قناعاً على وجه المسرح.

وسيبقى اسم “التشبيح الناعم” علامة سوداء في تاريخ الثقافة السورية، لأنه صنع من الفن جسراً بين المجرم وشرعيته.

المعاقبة الأخلاقية للتشبيح الناعم ليست بحثاً عن انتقام، وإنما محاولة للحفاظ على ذاكرة وطنية صحيحة.

المحاسبة الرمزية هي واجب على مجتمع يريد أن يشفى ويعيد الاعتبار لضحاياه: أن يسحب الأضواء ممن استخدموها لتبييض القتل، وأن يمنع تكريم من شرعن الجريمة.

فلتبقَ الذاكرة حيّة، ولتكن المحاسبة درساً لأجيالٍ قادمة، حتى لا يصبح الفن وسيلةً لتجميل القبح مستقبلاً.

 

آخر الأخبار
لا تعديل على الخبز التمويني .. ومدير المخابز يوضح لـ"الثورة" رغم وقف إطلاق النار.. غزة بين الحياة والموت التشبيح المخملي الذي جَمَّل براميل الأسد .. حين صار الفن أداة قتل الأمم المتحدة: إعادة بناء سوريا أمر حيوي لتحقيق الاستقرار  إعلان تلفزيوني يشعل الحرب التجارية بين ترامب وكندا مجددا  تحسين بيئة الأعمال شرط لتعزيز التنافسية  الاقتصاد السوري مبشّر ومغرٍ وعوامل نهضته بخطواتها الأولى  درع وزارة الرياضة والشباب.. بطولة جديدة تكشف واقع السلة السورية كأس الدرع السلوية.. الأهلي يُلحق الخسارة الأولى بالنواعير جامعة الفرات تناقش مشروع قانون الخدمة المدنية  بعد سنوات من الغصب والتزوير.. معالجة ملف الاستيلاء على العقارات المنهوبة حزمة مشاريع استراتيجية في "مبادرة مستقبل الاستثمار" بالرياض  رامي مخلوف.. من المال والاقتصاد إلى القتل والإجرام   بعد تضاعف صادراتنا.. مطالبات بتحديث أجهزة الفحص وتوحيد الرسوم توقيع اتفاق سلام كمبودي - تايلاندي لإنهاء نزاع حدودي التأمينات الاجتماعية تسعى لرفع الوعي التأميني لتحقيق أفضل الخدمات جدل حاد في "إسرائيل" حول مشروع قانون لإنقاذ نتنياهو دمشق ترسم معالم حضورها الدولي بثقة وثبات المشاركة السورية بـ"مبادرة مستقبل الاستثمار بالرياض".. خطوة محورية بمعركة الدبلوماسية والاقتصاد زيارة الشرع إلى الرياض.. ترسيخ سوريا الجديدة واستعادة دورها إقليمياً