الثورة – يمن سليمان عباس:
عندما كنا صغاراً ونقرأ اوليفرتويست أو بائعة الخبز أو غيرهما من عيون الإبداع الروائي لم نكن نشعر بالراحة النفسية إلا بعد أن ينتصر البطل الحقيقي لأنه ابن الحياة.
كنا نشعر أن كل هذا يجري أمامنا وهو أحداث واقعية تماماً لنكتشف فيما بعد أننا كنا مخطئين تماماً، فالكثير من الأدب الخالد هو ابن الحياة.
بمعنى آخر لقد التقطه مبدعوه من الحياة لأنهم أبناء الحياة ولايكتبون من وراء الطاولة والستائر المخملية كما يفعل الكثيرون اليوم فيأتي إبداعهم بارداً سقيماً.
ويعيد الكثيرون من النقاد أسباب خلود الأعمال الأدبية لأنهم كانوا يمارسون أعمالاً في حيواتهم تمدهم بنسغ الإبداع.. وإلى هذا يشير الناقد العراقي جودت هوشيار في دراسة له تحت عنوان: “الخبرة الحياتية والأدب”.
يرى هوشيار (أنه على الكاتب أن يعمل في مهنة أخرى إلى جانب ممارسة الكتابة الأدبية، من أجل معرفة الحياة على نحو أعمق وأوسع، حيث إن العمل في مهنة أخرى يوسع أفق تفكير الكاتب، ويرى الحياة من جوانب عديدة.
إن معظم الكتّاب في أوروبا وأميركا عملوا في مهن كثيرة قبل أن يكرسوا بقية حياتهم للكتابة الأدبية.
ويقول فيكتور شكلوفسكي ( 1984-1893)- رائد النظرية الشكلانية في الادب في كتابه “تقنيات المهارة الأدبية” الصادر في موسكو عام 1927 ، انه ” لابد للكاتب أن يعمل في مهنة أخرى ليعرف الحياة، ويصف ما حوله بطريقته الخاصة، التي تختلف عن طريقة الكاتب الذي لم يمارس أي مهنة أخرى “.
حقاً إن من يكتفي بمخالطة امثاله من الأدباء ومناقشة شؤون الأدب معهم، لا يمكن أن ينتج أدباً حقيقياً. التجارب الحياتية، بما فيها من معاناة وآلام، وإحباط، أو لحظات سعادة غامرة مهمة للكاتب القصصي أو الروائي، ولا تقل أهمية عن الموهبة الفطرية، أوالقدرة على التخيّل، أوالتفرغ للعمل الدؤوب بكل تركيز، فالخيال في القصة والرواية إنما يتغذى أبداً من الحقيقة.
لم يكن بمقدور ليف تولستوي أن يكتب رواية ” الحرب والسلام ” لولا أنه كان في شبابه ضابط مدفعية.
الكاتب الروسي إسحاق بابل (1894 – 1940 ) وهو أحد اساتذة فن القصة القصيرة في العالم، كان في الثانية والعشرين من عمره في عام 1916عندما نشر قصتين قصيرتين في مجلة ( ليتوبيس ) التي كان يصدرها مكسيم غوركي في بطرسبورغ، ولكن غوركي رفض نشر أي قصة أخرى لبابل قائلاً: ” يا سيدي إنك لاتعرف الحياة.. اذهب واعمل في إي مهنة أخرى “. وبعد أن تكتسب تجارب وخبرات حياتية كافية يمكنك أن تواصل الكتابة “. وبعد سبع سنوات من العمل في مهن مختلفة، وعمله مراسلاً حربياً في جبهات القتال في الحرب الأهلية الروسية ( 1918 – 1921 )عاد بابل ليفاجأ الساحة الأدبية برائعته ” الفرسان الحمر”.
من لم يختبر الحياة بحلوها ومرها لن ينتج أدباً حقيقياً ).
وإذا بحثنا في الأدب العربي فسنجد إبداع الحياة وقد تجلى فيما كتبه حنا مينة البحار الذي عرف طعم التشرد، ونتابع عند نجيب محفوظ الذي عمل في شؤون اجتماعية كثيرة وقال: لم أكتب إلا القليل مما رأيته في قاع المجتمع.. وهل نذكر بما كتبته نوال السعداوي وغيرها من المبدعين العرب الذين خبروا الحياة من خلال مهنهم التي أتاحت لهم ذلك.