الثورة – سعاد زاهر:
ربما كلّ من يعتنق عالم الأدب يعتبرأهم ما حدث له في حياته القراءة، على غرار الكاتب الذي رحل مؤخراً ماريو بارغاس يوسا، يقول: “أهم شيء حدث لي في حياتي هو أنني تعلمت القراءة، ولا أظن أن في هذه العبارة ذرة واحدة من المبالغة، أتذكر جيداً كيف، في سن الخامسة، عندما تعلمت القراءة، انفتح أمامي العالم فجأة بطريقة مذهلة، وكيف بدأتُ، بفضل القراءة، أعيش تلك التجارب، لا أقرأها فقط، بل أعيشها، فقد منحتني القراءة تجارب استثنائية: رحلات في الفضاء، رحلات في الزمن، مصائر غير مألوفة، مصائر لافتة، مصائر كانت خارج نطاق التجربة الواقعية تماماً، لكنها- مع ذلك- أصبحت حقيقية بفضل الأدب، بفضل السحر، الذي كانت القراءة توحي به إليّ”.لطالما تأثرنا بكلّ ما يقوله الكاتب البيروفي الحائز نوبل للآداب “يوسا” حول القراءة خصوصاً، والأدب عموماً، لقد قاده ولعه بالقراءة إلى باريس في ستينات القرن العشرين، ليعمل صحافياً، ترسخت علاقته بكتاب “الطفرة الأدبية” في أميركا اللاتينية، أمثال غبريال غارسيا ماركيز وخوليو كورتازار، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من هذه الحركة التي أعادت صياغة مفهوم الرواية اللاتينية، فمزجت بين صلابة الواقع وخصوبة الخيال، وجرأة التجريب في تقنيات السرد وعمق الغوص في تعقيدات المجتمعات اللاتينية.
عندما تبحر في عالمه الروائي لا يمكنك إلا أن تلتقي بروايته ” حوار في الكاتدرائية” يتناول فيها حياة أبطاله من منبت اجتماعي مختلف في عهد ديكتاتورية مانويل أودريا في الخمسينيات، ملمحها الروائي الأساسي يعمد إلى مقارنة بين سانتياغو وأمبروسيو، أحدهما ابن وزير والآخر سائق الوزير.
يتلاقى بطل الرواية سانتياغو مع بعض تجارب الحياة الحقيقية ليوسا، خلال سنواته في جامعة سان ماركوس، ويصور بطل الرواية نظرة متشائمة للمجتمع البيروفي خلال الخمسينيات، وفي الوقت نفسه يتبنى الوسطية، وعموماً فإن الرواية تحكي عن الجذور العميقة للفساد والفشل في السياسة والحكومة في بيرو.
لطالما كانت تيمة الفساد متواجدة في رواياته، كما فعل في روايته “البيت الأخضر” التي تتلاقى إلى حدّ ما، مع رواية “حديث في الكاتدرائية” حيث تتجلى قدرته على نسج حكايات متشابكة الخيوط، تكشف النقاب عن براثن الفساد، وطغيان الظلم، وصراعات السلطة المتأصلة في تربة بيرو وخارجها.
في روايته “حرب نهاية العالم” تناولت الرواية قضايا التعصب والعنف والمقاومة، وكشفت عن طموحه الذي تجاوز حدود بيرو الضيقة ليلامس قضايا إنسانية ذات بعد عالمي، وفي “حفلة التيس” قدّم تأملات عميقة حول طبيعة الديكتاتورية من خلال شخصية رافائيل تروخيو في جمهورية الدومينيكان، وبرع في تصوير التأثير المدمر للسلطة المطلقة على الفرد والمجتمع برمته.
في عام 2010، توج يوسا عن جدارة بجائزة نوبل للآداب، تقديراً لتصويره هياكل السلطة ورؤيته النافذة لمقاومة الفرد وثورته وهزيمته”، على ما ورد في بيان الأكاديمية السويدية.هذا التكريم الرفيع جاء بمثابة تتويج لمسيرة إبداعية امتدت لأكثرمن خمسة عقود زاخرة، أنتج خلالها أكثر من ثلاثين عملاً أدبياً متنوعاً بين روايات ومسرحيات ومقالات ودراسات نقدية عميقة، وقد عززت جوائز أخرى مرموقة، مثل جائزة “ثيربانتس” (1994) وجائزة “رومولو غاليغوس” (1967)، مكانته كأحد أعظم كتّاب اللغة الإسبانية على مر العصور.برحيل يوسا “13 نيسان” تطوى حياة قامة أدبية من جيل ذهبي لا يتكرر، ولكن ربما رحيله يحيلنا لننبش في صوته الروائي المتفرّد الذي أعاد تشكيل ملامح الأدب اللاتيني، محولاً إياه إلى جسر متين يربط بين عوالم الإنسان الخاصة وهمومه الأبدية.