الثورة – عمار النعمة:
الكتابة ليست مجرّد حرفة أو هواية، إنها فعل إنساني عميق، ينطوي على رغبة أصيلة في البوح، والمواجهة، وربما البقاء، هي تلك المساحة التي نلجأ إليها حين تضيق الحياة، أو حين تتسع بنا الأسئلة ولا نجد لها جواباً، نكتب لأننا لا نعرف طريقة أخرى للنجاة.
ولطالما كانت الكتابة ساحةً تتصارع فيها دوافع متضادة، بين الأنا الراغبة في تثبيت ذاتها، والحقيقة الباحثة عن صوت، بين الرغبة في الهيمنة على المعنى والحاجة إلى الفهم، بين الجمال كغاية جمالية والموقف الأخلاقي كضرورة إنسانية، هذا التوتر بين الأقطاب لا يضعف الكتابة، بل يمنحها طاقتها وقوتها، إذ إن أعظم النصوص لا تولد من صفاءٍ مطلق، بل من صراع داخلي حاد، من تمزق صادق، من مواجهة لا تخشى الألم.
هنا نستعرض تجارب كُتّاب كبار من الشرق والغرب، في محاولة للإجابة عن السؤال الأقدم والأكثر استعصاءً: لماذا نكتب؟ في هذا السياق، تبدو الكتابة فعلاً وجودياً لا مهرب منه، فمثلاً كتب فرانز كافكا ذات مرة: “أنا لا أستطيع أن أعيش دون أن أكتب، الكتابة بالنسبة لي، مثل التنفس” كانت نصوص كافكا، بما تحمله من قلق وعزلة، محاولةً يائسة للبقاء وسط عالم عبثي لا منطق له، لم يكن يكتب ليرضي قارئاً، بل ليبقى على قيد الحياة.
تكشف الكذب وتقف عند الحقيقة
في كتابه “لماذا أكتب؟” يعترف جورج أورويل أن أعظم الدوافع وراء كتابته هو الرغبة في فضح كذبة ما، لقد رأى في الكتابة سلاحاً لمواجهة الاستبداد وتشويه الحقيقة، لكنه في الوقت ذاته، لم يُخفِ شغفه بالشهرة ومتعة اللغة، وأقرّ أن دوافع الكاتب تتأرجح بين السياسي والجمالي، بين النفعي والذاتي.
بدورها جوان ديديون، فقد قدّمت منظوراً مغايراً، صادماً تقريباً حين وصفت الكتابة بأنها “فعل أن تقول أنا”، هي لا تكتب لتخدم الحقيقة أو القارئ، بل لتفهم نفسها، ولتمارس نوعاً من السلطة الناعمة على المتلقي، تعترف بأن الكتابة بالنسبة لها ممارسة “عدوانية” تُخضع القارئ لنظرتها الخاصة، وكأنها تحوّل الورقة البيضاء إلى ساحة لتثبيت الأنا والسيطرة على الآخر.
أما إيزابيل الليندي ترى في الكتابة خلاصاً داخلياً، هاجساً وجودياً لا يمكن الهرب منه، القصص تنمو داخلها كما ينمو الورم، ولا شفاء إلا بتدوينها، فنرى مثلاً بعد دخول ابنتها في غيبوبة، لم تجد عزاء إلا في الورق، في الحبر الذي يوثق الحب والغياب، لقد كتبت لتظل حيّة، لتبقى ابنتها حيّة، ولتبقى الذكرى ممتدة عبر اللغة.
الكتابة هوية ومقاومة
في التجربة العربية، تأخذ الكتابة بعداً آخر، فمحمود درويش كتب ليحمل هوية وطن في المنفى، فكانت قصيدته وثيقة وجود، وسلاحاً لغوياً ضدّ محو الذاكرة.
غسان كنفاني بدوره لم يفصل القلم عن البندقية، فكانت كتابته صورة عن اللاجئ، عن الثورة، عن الوطن الذي يسكن السرد أكثر مما يسكن الخريطة.
في حين تصرّ نوال السعداوي على أن الكتابة فعل تحرر، لا من أجل الترف الفكري، بل لتحطيم القيود التي يفرضها المجتمع على النساء، كتبت من الجسد إلى الفكرة، ورفضت الصمت بوصفه شكلاً من أشكال القهر، تقول ببساطة: “أكتب لأنني لا أستطيع أن أصمت”.
المثقف شاهد لا موظف
في كتابه الشهير “المثقف والسلطة”، يضع إدوارد سعيد تصوراً شديد الخصوصية لدور المثقف، بوصفه “منفياً بالضرورة”، خارج أسوار المؤسسات الرسمية، وخارج منطق المصلحة.
يرى سعيد أن المثقف الحقيقي هو من يقول الحقيقة في وجه من يملك، من يتحدث باسم المقموعين، دون أن يتحوّل إلى موظف أو بوق.
في الختام نقول: الكتابة في معظم حالاتها تكمن بين الذات والآخر، وبين الجمال والرسالة، وبين الهروب من الداخل ومواجهة الخارج.. نعم، قد يكتب البعض من أجل الحقيقة، وآخرون من أجل الأنا، لكن ما يهم، أن الكتابة هي فعل حياة تُبقي الشعور حيّاً وتترك في العالم أثراً لا يُمحى بسهولة.