الملحق الثقافي- أيمن المراد:
تُعد اللغة العربية ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية، وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم، إذ يتكلمها يومياً ما يزيد على 422 مليون نسمة من سكان المعمورة.
ويختلف الباحثون حول أصل اللغة العربية، إذ إن بعضهم يرى أنه في قلب الجزيرة العربية في نجد، والدليل نقاء اللغة هناك، حيث كان العرب يرسلون أبناءهم إليها لاكتساب اللغة النقية في منأى عن أي تلوث لغوي، في حين يرى آخرون أن اللغة العربية نشأت في شرق الجزيرة العربية، ويستدلون على ذلك بأن الآثار الشعرية الجاهلية أول ما ظهرت هناك، وثمة من يرى أن أصل العربية لهجة قريش نظراً لأن القرآن نزل بها، إضافة إلى أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش.
إن اللغة العربية واكبت مسيرة أمتنا، فكانت تقوى بقوتها، وتضعف بضعفها، ذلك لأن اللغة مرافقة للأحياء الذين يتكلمونها، وهي جزء أساسي من كيان كل مجتمع، وظل القرآن الكريم سياجاً للغتنا العربية حفظها من الضياع إبان المحن التي ألمت بالأمة، واستهدفت لغتنا فيما استهدفته.
يحتفل العالم باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر من كل عام، حيث وقع الاختيار على هذا التاريخ بالتحديد للاحتفاء باللغة العربية لأنه اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 قرارها التاريخي بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة.
وقد أبدعت اللغة العربية بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصيحة والعامية، ومختلف خطوطها وفنونها النثرية والشعرية، آيات جمالية رائعة تأسر القلوب وتخلب الألباب في ميادين متنوعة تضم على سبيل المثال لا الحصر الهندسة والشعر والفلسفة والغناء. وتتيح اللغة العربية الدخول إلى عالم زاخر بالتنوع بجميع أشكاله وصوره، ومنها تنوع الأصول والمشارب والمعتقدات. ويزخر تاريخ اللغة العربية بالشواهد التي تبيّن الصلات الكثيرة والوثيقة التي تربطها بعدد من لغات العالم الأخرى، إذ كانت اللغة العربية حافزاً لإنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا في عصر النهضة. وأتاحت اللغة العربية إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الإفريقي
على الرغم من تجاوز عدد لغات العالم 7000 لغة، إلّا أن العربية كانت وما زالت تتربّع على عرش اللغات الأكثر رصانةً وانتشارًا، وقد تغنّى بجمالها الكثير من الشعراء العرب وأشادوا بأهميتها، على رأسهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فهي تحتل مكانةً خاصةً في قلوب جميع العرب، ما جعل اسمها يلمع في كل بقعةٍ على هذه الأرض على الرغم من التحديات الكثيرة التي تواجهها، ونظرًا لأهمية هذه اللغة الجميلة، كان لا بد من تخصيص يومٍ في تقويم السنة لتخليدها ونشرها على نطاقٍ أوسع. في هذا المقال، نسلط الضوء على مناسبة اليوم العالمي للغة العربية والفعاليات المرتبطة بها، كما نقدم بعض المعلومات عن اللغة العربية التي أوصلتها لما هي عليه الآن.
ينادي شعار اليوم العالمي للغة العربية بتذكير العالم بأهمية هذه اللغة العظيمة؛ لما تتمتّع به من مزايا وسماتٍ خاصة تجعلها تتفوق على غيرها من اللغات الأخرى في العالم. وأبرز ما تنفرد به هذه اللغة:
لغة القرآن وجزء لا يتجزأ من أداء العبادات والصلاة في الإسلام.
إحدى اللغات الساميّة القليلة التي استمر وجودها إلى يومنا هذا.
لغة شعائرية رئيسية في عدد كبير من الكنائس المسيحية في الدول العربية.
إحدى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة.
اللغة الرسمية الأولى لدول الوطن العربي.
وسيلة رئيسية في نقل وحفظ تاريخ العرب منذ العصر الجاهلي.
عامل أساسي في توارث المعارف ونقلها ونشرها في مختلف أنحاء العالم العربي.
إحدى اللغات المميزة التي تُكتب من اليمين إلى اليسار.
تنفرد بكونها من اللغات النادرة الغنية بالمفردات والصور الفنية؛ إذ تتفوق بعدد مفرداتها الذي يصل إلى ما يقارب 12 مليون كلمة.
يشكّل اليوم العالمي للغة العربية أهميةً كبيرةً للكبار والصغار على حدٍ سواءٍ؛ لذا لا بد من المشاركة في ذلك اليوم والتعبير عن تقديرنا للغتنا الأم بشتى الطرق والوسائل، كما يجب على شرائح المجتمع كافة على مستوى الأفراد والمؤسسات إحياؤها، وهنا يجب الإشارة إلى دور اليونسكو الكبير في مشاركاتها المؤثرة التي أسهمت في كشف الستار عن بعض القضايا المهمة المتعلقة باللغة العربية؛ مثل حلول بعض اللغات الأجنبية محلها في التواصل اليومي والمجال الأكاديمي، وحلول اللهجات العربية المحلية محل العربية الفصحى، وعليه من الواجب علينا أيضًا أن نكون جزءًا من هذه المشاركات الفعالة من مختلف مواقعنا. ومن أبرز الأفكار للمشاركة في اليوم العالمي للغة العربية للأفراد والمؤسسات، مرفقةً بنبذةٍ عن كلٍ منها:
الأسرة
تتمتع الأسرة بدورٍ محوريٍ فيما يتعلّق بتنمية حب لغة الضاد لدى الأبناء وتنشئتهم على تقديرها وإتقانها، والحرص على استخدامها ما أمكن ذلك. من أفكار الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية التي تثري معلومات أبنائك، وتنمي روح المنافسة لديهم؛ طرح الأسئلة المعرفية المتعلقة بقواعد اللغة ومفرداتها وتراكيبها والمحسنات البديعية في نصوصها، مع تخصيص جائزة مميزة للفائز كإهدائه إحدى قصص أو كتب اللغة العربية.
المدرسة
يتّخذ الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية في المدارس منحىً مختلفًا؛ نظرًا لكون اللغة العربية مادةً أساسيةً في جميع المراحل الدراسية واعتمادها لغة رسمية للتدريس، كما تتعدد الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لتذكير الطلبة بهذه المناسبة الرائعة وضرورة مشاركتهم فيها، فالقطاع التعليمي هو خير داعمٍ لها. فيما يلي قائمة بأفكارٍ مميزة للاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية في المدارس:
تخصيص فقرة في الإذاعة المدرسية حول أهمية تعليم العربية وتعلّمها.
تنظيم مسابقة لأفضل قصيدة شعرية أو نصٍ نثري عن اليوم العالمي للغة العربية.
عرض مسرحية هادفة حول أهمية لغة الضاد، وكيفية حفظها من الزوال والاندثار وسط التغيرات والتحديات المستمرة.
تزيين المدرسة والغرف الصفية بالجداريات واللوحات الإرشادية التي تضم عبارات التغنّي باللغة العربية.
تخصيص جائزة للقراءة باللغة العربية تعطى للطلّاب المتميزين في قراءة الكتب العربية القيّمة.
تدريب الطلبة على تنظيم عرض أو إلقاء نشيد عن اليوم العالمي للغة العربية.
مشاركة المعلمين في توعية الطلّاب حول تاريخ اللغة العربية والخطر المحدّق بها في الوقت الحالي وضرورة الحفاظ عليها.
التحديات التي تواجه لغة الضاد
في الواقع إن لغتنا العربية تواجه اليوم بعض التحديات الصعبة، والتي يجب علينا جميعًا مراجعتها بما يخدم لغتنا العربية.
إنَّ اللغة العربية هي رمز لتاريخنا وهويتنا وحضارتنا وثقافتنا ولوجودنا بشكل عام، وهي اللغة التي كانت وستظل محفوظة ومصونة إلى قيام الساعة، وهي لغة عالمية، وهي اللغة السادسة في هيئة الأمم المتحدة، وهي اللغة التي يزيد عدد مفرداتها وكلماتها وجذورها اللغوية عن اللغات المشهورة الأخرى كالإنجليزية والفرنسية وغيرها بالملايين، وعلى الرغم من كل ذلك فقد أصبحنا نرى من يرثي اللغة العربية من الخبراء والباحثين والمختصين بمجالي تعليمها وتعلمها، ولاسيما بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية المختلفة، فهناك مَنْ يخشى مِنْ مصير مجهول للغة الضاد في عصر العولمة والانفتاح الثقافي وسيطرة اللغات الأجنبية ونفوذها على الساحة الإعلامية.
ومن أبرز هذه التحديات: شبكات التواصل الاجتماعي، وبعض المنتديات الإلكترونية، فقد أصبحت المنتديات الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي مثل: الفيسبوك، وتوتير، والانستغرام، وغيرها في هذا العصر من الوسائل المهمة والفعالة للتواصل اللغوي بين أبناء العربية في شتى أنحاء العالم الذي أصبح اليوم بمنزلة قرية صغيرة بفضل تلك الوسائل، وذلك لسهولة استخدامها من قبل جميع الأفراد بمختلف أعمارهم، وكذلك لسرعة انتشارها في مختلف أنحاء العالم، ونحن لا يمكننا أن ننكر الفائدة والأهمية القصوى والكبيرة لتلك الشبكات، ولكننا نأخذ عليها أنها تعد في بعض الأحيان تحدياً كبيراً أمام اللغة العربية، وذلك بسبب التداول اللغوي الإلكتروني على تلك الشبكات ومواقع التواصل، فمن الملاحظ أن الكثير من تلك الشبكات والمواقع الإلكترونية قد قلبت موازين اللغة العربية، إضافة إلى أن محتواها اللغوي يتسم بالتساهل في استعمال اللغة العربية، وإضافة إلى ما سبق نجد أن هناك الكثير من الأخطاء المرتبطة بتشكيل مفردات اللغة العربية وألفاظها على صفحات تلك الشبكات، إضافة لاستعمال الكثير من الألفاظ في تلك المواقع والشبكات بصورة مغلوطة، وكذلك تعد تلك الشبكات والمواقع الإلكترونية بمنزلة بوابة ضخمة لنشر وشيوع العاميات المختلفة، كما أنها لا تخضع لضوابط الكتابة اللغوية الصحيحة، ولعل خطر تلك الشبكات والمواقع الإلكترونية يزداد يوماً بعد يوم في ظل غياب النخب اللغوية بشكل عام عن هذه الوسائل الإلكترونية، والتي انتشرت بصورة مذهلة في العصر الراهن.
أما التحدي الثاني الذي تواجهه لغتنا العربية في العصر الراهن هو بعض وسائل الإعلام، ونحن هنا لا ننكر أبداً أن الإعلام مادة ثرية وخصبة يمكن أن تكون عامل قوة للغة العربية لو تم استثماره على نحو سليم، مثلما يمكن أن يكون مصدر ضعف لها، وخاصة إذا كان بعض المتكلمين غير أقوياء في اللغة العربية، ولا يتحدثون باللغة الفصيحة، إضافة لتساهلهم في استعمال ألفاظها وتراكيبها بصورة غير سليمة، واستعمال اللهجات المحلية بديلاً للغة العربية الفصحى، وتكمن الخطورة هنا في أننا جميعاً نعلم جيداً قوة وسائل الإعلام، وسرعة انتشارها، وسهولة وسرعة تأثر الأفراد بها ولاسيما الصغار وحديثي السن من خلال متابعتهم المستمرة لبعض البرامج التي تثير اهتمامهم وتناسب ميولهم وسماتهم العمرية والفكرية.
وبالنسبة للتحدي الثالث أمام اللغة العربية فهو المعارف الحديثة، فاللغة العربية تتهم اليوم بأنها ليست لغة المعارف والعلوم الحديثة، وذلك بسبب ابتعادها اليوم عن الإنتاج المعرفي في بعض العلوم التخصصية والحيوية، والاتكال على اجترار اللغة التراثية من التاريخ والأدب فحسب، وهذا ما جعل البعض يرى لغتنا العربية تنحسر ونادى بوجوب تبديلها بلغات أخرى لمواكبة العصر الحديث الذي نعيشه، وهنا لابد لنا من وقفة، فالأسباب الرئيسة لسيادة لغات أخرى في العالم غير العربية كالإنجليزية والفرنسية هو أن النهضة العلمية الحديثة كانت من نتاج أبناء هذه اللغات من الغربيين، فمنذ القرن التاسع عشر وإلى هذا اليوم مازالت هذه اللغات مادة إنتاج حيوية للعلوم المحضة والتجريبية في شتى المجالات الطبية والفيزيائية والكيميائية والرياضية وغيرها، وهي أصبحت محل اقتداء واقتباس بسبب الفائدة العظيمة التي قدمتها للإنسانية، وما فعلته من نقلة نوعية في سلم التطور والرقي في تاريخ الحضارات البشرية، ومن الطبيعي أن تدرس هذه المعارف في مناشئها، وتنقل بأفكارها الأصلية ولغاتها الأجنبية، لأنها ليست من نتاج العربية أصلاً. وهذا يعد بلا شك من الأمور الخطيرة التي تشير إلى تراجع أبناء العربية في مواكبة العصر والإنتاج المعرفي في العصر الحديث، بعدما كانت تقوم بذلك في سنوات وعصور سابقة، فمن منا لا يتذكر علماء ينتسبون للعربية قد أنتجوا معارف وعلوماً مازالت ثمارها تفيدنا حتى هذه اللحظة في مختلف أنحاء العالم، من منا لا يتذكر جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وابن سينا والفارابي والرازي وغيرهم الكثير والكثير ممن أنتجوا لنا العلوم والمعارف التي قام علماء من الغرب بأوروبا وغيرها بعدما تعلموا العربية بترجمة تلك المعارف والعلوم والاستفادة منها في ثورتهم العلمية.
ولذا نحن نقر بأن المعرفة تعد اليوم مصدراً من مصادر الضعف الذي يواجه لغتنا، وقد أضعفها إلى حد كبير بحيث بدت وكأنها لا تصلح إلا للشعر والأدب، ولا يمكن لها أن تكون لغة للمعارف الحديثة!
وهذا كله يوجب علينا ببساطة شديدة النهوض العلمي في بلداننا والتفكير بلغتنا وتفجير الطاقات العقلية الممزوجة بلغة الضاد، فاللغة العربية بلا شك هي مصدر قوة هائلة، ولذا فهي مازالت ثابتة وكائنة على مدار الأزمات المختلفة.
أخيراً إن لغة الضاد كانت وستظل أبداً منارة علم وأدب ومعرفة وستكون أقوى بجهود أبنائها وعلمائها من أهل العربية الذين يجب عليهم التفكير دوماً في تلك التحديات التي تواجه لغتنا الجليلة، والعمل على التصدي لها والتغلب عليها.
العدد 1172 – 19 -12 -2023