الثورة – ديب علي حسن:
لا نريد أن ننكأ جرحاً، فهو بلا ضفاف، ولا أن نقلب كوارث وفواجع الأمة، فهي ماثلة أمام الجميع لكننا أردنا أمام مشهد الهول والدمار الذي مازال منذ سبعين عاماً ونيف يحل بفلسطين والأمة ويزداد على أرض فلسطين ولاسيما غزة.
أردنا أن نعيد الصرخة التي أطلقها الكاتب الفلسطيني موسى العلمي منذ ما يقارب السبعين عاما أيضاً.. في كتابه المهم جداً الذي طبع ثلاث مرات خلال ثلاثة أشهر وحمل عنوان: “عبرة فلسطين”.
من هذا الكتاب نقف عند صرخته العبرة، ودعوته العرب لأن يتحدوا ويتخذوا القرار.. يقول العلمي: (ولقد رأى العرب بأعينهم بعض نواحي الكارثة التي نزلت بإخوانهم في فلسطين، وسمعوا ببعضها، فهزهم ذلك هزة عنيفة، لكن مدى الكارثة يربي كثيراً على كل ما رأوا وسمعوا، وكل ما قدروا وحسبوا.
فقد رأوا مئات الألوف من إخوانهم يخرجون من بيوتهم وديارهم هائمين على وجوههم في البر والبحر وقد تركوا خلفهم كل عزيز.
ورأوهم ينزلون بينهم في منازل البؤس والحاجة: يقيمون بالعراء ويفترشون الغبراء ويتوسدون الحجر ويتقون بالشجر والله أعلم بما يأكلون ويقتاتون، وتغير عليهم من جراء تلك الأمراض ويصيب الموت منهم مئات في كل يوم.
وسمعوا بما وقع لهم خلال ذاك من فواجع ومآس: بين من طغى عليه الموج فأغرقه، ومن انتشل من اليم بين الموت والحياة، ومن ألقى بثقله في البحر لينجو بروحه، ومن أهلكه القيظ والظمأ في الطريق، والتي أدركها المخاض، فانتحت لتضع حملها في ناحية من الطريق، وربما هلكت هي والوليد والتي ألقت بطفلها الغض البريء على جانب الطريق حتى لا تهلك وإياه، ومضت وهي تتلفت إليه وتتحرق عليه، والتي ذهلت عن رضيعها، فحملت الوسادة والصغار الذين ضلوا عن آبائهم أو فقدوهم إلى الأبد، والذين لا يعرفون لأنفسهم ولا لأهاليهم اسماً، والذي لم يجد لصغاره غطاء في ليالي الشتاء وشدة الزمهرير، فأثرهم بثيابه ومات من البرد والذي ضاقت به الحياة فقتل صغاره الثلاثة وزوجه ثم قتل نفسه والذين جردهم العدو عند خروجهم من كل ما حملوا من مال وحلي، والذين صبحهم العدو على حين غفلة وهم في بيوتهم آمنون، فقتل ومثل وفظع وأفحش واعتدى على كل حرمة.
ثم سمعوا بما عمل العدو بعد ذلك، من سلب ونهب، فيما خلف الناجون وراءهم من لباس ومتاع وآنية وبضاعة وزرع وضرع وثمر، حتى أتى عليها كلها ولم يبق منها شيئاً.
وأنه سكن بعدهم في مساكنهم وأقام في بيوتهم واحتل مدنهم وقراهم.
وسمعوا كذلك بما محي من قرى كانت عامرة وما نسف من أحياء كانت آهلة.
أما الحقيقة الكاملة فهي أشد هولاً من كل ما يستطيع أن يصف الواصفون
استنهاض الهمم
ويدعو العلمي العرب إلى النهضة قبل فوات الأوان..
اليوم حري بالعرب أن يكون قد كشفوا الواقع بعد هذا الذي رأوا وسمعوا من كارثة فلسطين ومن رأى العبرة فليعتبر.
ويخلص إلى القول:
لا تدفع القوة إلا بالقوة ولا نكون أقوياء حتى نكون عصبة، وحتى نسلك السبيل الوحيد الذي سلكته الأمم التي صارت قوية.
نحن أقوى..
ويضيف العلمي حينها قائلاً: نحن أقوى من اليهود ما في ذلك ريب، وإنما ذهبت فلسطين رخيصة من بين أيدينا لم ندافع عنها دفاع الرجال.
وإذا كان في العرب حيوية وقابلية ورجال أولو نضج وحكمة وعزيمة، فليس أمامهم سوى العمل السريع من دون تردد وقبل فوات الوقت.
فإن لم يفعلوا وظلوا غارقين في الأماني والأحلام، فتلك علامة سيئة قد تشير إلى أنهم وصلوا إلى درجة من الخمود والانحلال لا تؤهلهم لأن يسيروا مع الزمان.
لقد هزتنا الكارثة هزة عنيفة وأحدثت فينا جرحاً عميقاً، وفتحت علينا باب خطر شديد ولئن أيقظتنا الهزة وجمعتنا ودفعتنا إلى حياة جديدة نأخذ فيها بأسباب النهوض والقوة، فإن الجرح يلتئم والخطر ينكشف، وفلسطين تعود وقد تحمد المصائب.. وإلا فيا لهول المصير.
أما موسى العلمي فهو كاتب فلسطيني، وعاش متنقلاً بين لندن وعمّان، وكان يتردد في زيارات إلى الضفة الغربية حتى توفي في العام 1984.
وقد ورد في كتاب (من أعلام الفكر والأدب في فلسطين) لمؤلفه يعقوب العودات عن موسى العلمي: “الحكمة التي آمن بها موسى العلمي وبشر بها في ندواته ومجالسه واتخذها شعاراً قبل وقوع النكبتين المروعتين في فلسطين قوله: “إننا لن ننتصر على إسرائيل النصر النهائي حتى ننتصر على أنفسنا”.
كما أن من التكريم الذي لاقاه العلمي بعد وفاته هو الكتاب الذي كتبه ناصر الدين النشاشيبي عنه تحت عنوان (آخر العمالقة في فلسطين/ موسى العلمي).