الثورة- هفاف ميهوب:
في كتابه “ماأجمل العيش دون ثقافة” يتهكّم الكاتب الإسباني “ثيسار أنطونيو مولينا” من عالمنا الرقمي، الذي قلبت تقنياته وشبكاته، حياتنا رأساً على عقب، وفي كلّ المجالات التي جعلتها استهلاكية، وجعلتنا منعزلين، لاشيء يربطنا بالعالم، غير التكنولوجيا التي قيّدتنا أمام شاشاتٍ، تتدفّق منها معلوماتٍ إن فقدناها، نشعر بالتوتّر والقلق والضجر.
أما عما يبدأ الكتاب بتناوله، فيقع تحت عنوان: “ماأجمل العيش دون قراءة”، وهو فصلٌ ينفي فيه الكاتب، إمكانية القراءة في عالمٍ، استعمره الرقميّون وهاجموا فيه الكتابة والقراءة والورق، وكلّ وسائل التعليم والتربية التي لاتلجأ إلى التكنولوجيا في عملها.
يرى المؤلف هنا، بأن الإنسان لم يعد كائناً ناطقاً، بل مجرّد كلماتٍ مقروءة ومكتوبة ومحكومة، ومن قِبل من وصفهم:”المستعمرون الرقميون، أو ماسمّي قديماً بالطابور الخامس، يجهّزون لأنفسهم موطئ قدم، لاختراق التكنولوجيا الرقمية، في مساحاتٍ غير محميّة.. يهاجمون حقوق النشر، والأنظمة المعرفية، ويدافعون عن القرصنة،.يسعى هؤلاء للتخلّص من الورق، ولإيقاف العلوم الإنسانية، لمصلحة الخضوع المالي.. إن هذا الاستعمار، عبارة عن إيديولوجيا شمولية”.. يا ترى، هل يسعنا بعد كلّ ذلك أن نقول : “ما أجمل أن نعيش عبيداً للرقمنة”؟..
للأسف، نحنُ مجبرون على العيش في هذا العالم، وبلا ثقافة أو تفكير أو وعي، بل حتى بلا هويّة اجتماعية أو معرفية أو إنسانية.نضطرّ للسؤال هنا: ما هو دور الشعر والفنّ والأدب والقراءة والكتابة والمكتبات؟.. ماهو دور من تبقّى من مثقفين ومبدعين، قضى هذا الاستعمار على ماتبقّى لديهم من متعة القراءة والكتابة على الورق؟!..
يجيب “مولينا” على سؤالنا هذا، بإشارته إلى ضرورة إنشاء منهجيات جديدة، وتعليمات قراءة جديدة، أي وعلى رأي “فلوبير”: “تقديم طريقة خاصة للعيش”. إذاً، على القارئ أن يكون متعدّد الأبجديات، ومتعدّد القراءة والكتابة، وهو ما ينطبق أيضاً على الكاتب، لتكون القراءة بالنهاية:”القراءة تبني وتغذّي، مثلها مثل بعض الأنشطة، ذات القدرات الفكريّة المهمة.. القراءة مصدر ثروة لفظيّة، تستعمر وتصدّع عالمنا المتخيّل، وتثير وتحفّز مشاعرنا، تأخذنا من الماضي إلى ما هو أكثر مغامرة مما نتوقع، وهو ماتحتاجه لتتمكّن من رفع النماذج الجديدة، التي تردّ على التغيير الذي نعيشة، والرقمنة التي تستعمرنا”.
باختصار: في هذا الكتاب، يواجه “مولينا” الاستعمار الرقمي بكلّ سلطته وتشعباته، وأيضاً من ارتضوا أن يكونوا عبيداً له، مشيراً إلى ضرورة الوعي والسعي إلى “الثقافة كمضاد لأخطار الحماقة”.. الأخطار التي تنعكس على عالمٍ واجههُ ساخراً، وعندما رآه سعيداً بما قدمته له التكنولوجيا، ويظن أن المزيد منها، سوف يجعله أشد وعياً وانفتاحاً وتطوراً :”ماأجمل العيش دون قراءة، ودون مكتبات، وكغبيّ في عصرٍ أنت فيه عبداً للرقمنة.. ما أجمل أن تعيش بلا تفكير، فتكون منفيّاً من جمهورية الأدب الكبير دون معلمين، وفي مقبرة مع مؤلفين ميّتين.. بين قراصنة الجهل، دون شعرٍ أو ورقٍ أو طابعات أو مكتبات، ودون لغاتٍ أو حبّ أو أحاسيس ورغبات.. بين غاباتٍ من الكلمات المتكلّسة، دون رقابة أو حياة وآمال، ومع التفاهة والفراغ، دون ثقافة أو مثقفين، ودون عباقرة أو جمال.
السابق