الثورة _ رفاه الدروبي:
يتناول فيلم ٢٠٠ متر تجربة حقيقيَّة مقتطعة من أرض الواقع، إذ كتب قصته وأخرجه أمين نايفة بعد ثلاثة أفلام قصيرة له، شاركته في إنتاجه مي عودة، ليكون أول فيلم روائي طويل أنجزه خلال مدَّة ناهزت السبع سنوات من العمل، حيث صوَّر أحداثه في طولكرم وجنين ورام الله، وحصد العديد من الجوائز العربية والعالمية.
يسرد الفيلم حكاية زوجين لديهما ثلاثة أولاد، وجدا نفسيهما في خضم تحدٍّ ومصاعب إنسانيَّة أثناء تعرُّض ابنهما لحادث مفاجئ، إذ حاول الأب عبور الحاجز الأمني لعلاجه لكنَّه يُمنع من الدخول فتتحوَّل رحلة عبوره إلى مأساة تكشف معاناة حقيقيَّة.
وأجمل ما في الأحداث مشهد عودة الأب واستحضاره للحظات ضحكات أولاده ومرحهم معه لدرجة تجعل المُتلقِّي يشعر بالحزن والدمع يترقرق من المآقي، ويزداد الأسى اتساعاً عندما تلومه زوجته نتيجة رفضه الأوراق الثبوتيَّة المفروضة عليه من قبل المحتل الغاصب باعتباره من مُهجَّري عام ١٩٤٨ لكنَّ جوابه دائماً يأتي بالرفض لنفسٍ أبت الرضوخ إلا لوطنٍ عزيز.
ولم يغفل الفيلم أثناء دوران عجلة أحداثه الخوض في ملف شبكة تهريب العمال الفلسطينيين من ضفة إلى أخرى، وصعوبات تنقُّلهم لكسب رزقهم؛ وحتى خلال دخولهم بطرق نظاميَّة أثناء اجتيازهم الحاجز الحدودي.
إنَّنا أمام مخرج شاب استطاع بأسلوبٍ فنيٍّ مُبهر ومعالجة دراميَّة بسيطة أن ينجح في تصوير الصراع الداخلي للشخصيات، مُحاولاً الهروب من كلِّ الطروحات المُكرّرة، ولم يُسقط فيلمه في فخ الابتذال؛ بل اختار عدم اللجوء للسرد من خلال تقديم معلومات عن قضيَّة وطن مصيريَّة، واحتجاجات الفلسطينيين ضدَّ الجدار؛ كما أنَّه لم يتطرَّق أيضاً إلى ممارسات الاحتلال والنقاشات السياسية والمواجهات المباشرة بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال، وأغفل إغراق عمله في الميلودراما السائدة عن “القضيَّة”، حيث اختفت أصوات الصواريخ والبنادق؛ وركَّز على العلاقات الإنسانيَّة، وتتطوّرها، فجعلنا نسمع أنين الذات المُنهكة والممزَّقة في كلِّ بيت فلسطيني مُحوِّلاً شخصيَّاته من حالة نفسيَّة إلى أخرى تجعل المشاهد ينجذب لأبطاله ويتعاطف معهم ويعيش آلامهم وانتكاساتهم، عبر مغامرة محفوفة بالمخاطر لأيِّ فلسطيني يعبر الحدود بين قريتين يفصلهما جدار إسمنتي.
ماتزال المأساة مُستمرَّة مع عائلة المخرج الصغيرة ببقاء والدته القاطنة في قرية “عرعرة” بالجهة المقابلة لطولكرم مكان عيش أمين الواقع في الضفة الغربية، إذ حوَّل قصَّته من فكرة يعيشها إلى صوت وصورة ليوثق خلالها معاناته الشخصيَّة ومأساة عائلة تشتَّتت؛ لكنَّها ماتزال صامدة، مُتماهية مع جذور أرضها الأم، حيث يروي بكلِّ حرقة وأسى كيف حُرم من رؤية جدَّته عندما كانت على قيد الحياة؛ وكيف تلقَّى خبر وفاتها الصادم وقت اصطفَّ في طابور الانتظار الطويل على الحاجز الحدودي المعروف “بجدار الفصل العنصري” رغم أنَّ المسافة بين القريتين لا تزيد عن 200 متر.