يأتي رمضان هذا العام حزيناً مضرجاً بالدم، مكللاً بالدمع، والناس في غزة بين موت وحياة.. القلوب البريئة ترنو إلى سلام يحفظ الأرواح، والعيون المنكسرة تنظر إلى فرج يأتي من السماء.
في ظلال الحرب، ترتسم صورة رمضان بألوان مختلفة، تتلون بين الألم والأمل، بين الصبر والتحدي. إنها فترة تحمل في طيّاتها قصصاً مؤلمة، وأحداثاً صعبة، ولكنها تعكس أيضاً عزيمة الإنسان، وقوته في مواجهة التحديات.
رمضان في ظلال الحرب يشكل امتحاناً حقيقياً للصبر، والتحمل بينما الناس يعيشون حياة مملوءة بالقلق، والخوف، وهم يتعرضون للعنف، والدمار، والفقر، والجوع.. إلا أن أهل غزة يثبتون أن الإيمان، والصمود لا يعرفان لديهم الحدود، إنهم يستمرون في صيامهم، وأداء صلواتهم رغم الصعاب.
ورمضان اليوم إذ يأت يجعلنا ندرك قيمة الحرية، والسلام.. إنه الشهر الذي يجمع الناس عادة إليه بالصوم، والعبادة، وهم يمارسون فيه قيم التسامح، والتعايش، والعدل، والمحبة مهما قست عليهم ظروف المعيشة.
وفي ظل مثل هذه الأوقات القاسية يعلمنا هذا الشهر الكريم أن الإيمان، والأمل هما ما يجعلانا نحافظ على قيمنا الإنسانية، والروحية، فالحياة تستمر ولا تتوقف عند حدود من الدمع، والقهر، بل هي تعزز قوة الإرادة البشرية، وقدرتها على الصمود في وجه الصعاب. فرمضان هو رحمة، وسلام في قلوب المؤمنين.. يرتسم في ذاكرة الأرواح، وينبت في الأعمار كالزهرة الندية. إنه شهر الأنوار الساطعة، والرأفة الوفيرة.. شهر الغفران والصفح العظيم الذي يحمل في جنباته السكينة، والسلام.. يعبق بالمحبة، ويشع بنور الإيمان، والتقوى. إنه رمضان.. نبض القلوب، وسلوان الروح.
شهر الصيام، والتأمل، والتقرب إلى الله يمتاز بروحانيته الفريدة والتي تمتد على مدى أيامه، وهو يجمع إليه المسلمين من مختلف بلدان الدنيا في تجربة مشتركة من العبادة، فيتجاوز الصائمون فيه حاجز الجوع والعطش، ويختبرون حالة الانعتاق من الروتين اليومي للحياة للاستمتاع بالعبادة، والتواصل مع الله، وهم يتكاتفون في الوقت ذاته في أعمال البر، والإحسان، والتعاون، والرحمة، والتآخي بين أفراد المجتمع.
رمضان ليس مجرد شهر صيام وامتناع عن الطعام، والشراب، بل هو شهر تجديدٍ للروح، والعقل، والقلب، ونافذة العبد نحو السماء.. وفرصة للتحول الروحي، والتغيير الإيجابي في الحياة، وتعزيز العلاقة النقية مع الله، ومع عباده جميعاً. وبالإضافة إلى الجانب الروحي، والديني، فهذا الشهر يحمل أيضاً طابعاً اجتماعياً، وثقافياً يشهد تقاليد، وعاداتٍ مميزة في مختلف الثقافات بما يعزز التواصل الاجتماعي، والروابط العائلية بينما الزينات في الشوارع، والبيوت تضفي جواً من البهجة، والسرور.. إلا أن إخواننا في غزة يواجهون أياماً لا ككل الأيام، ورمضاناً لا ككل ما سبق، فلا زينات تبهج، ولا موائد إفطار تمتد، ولا أسر تنضم إلى جميع أفرادها بعد أن دمرها العدوان، وسرق منها حياة أبنائها، ولا مساجد تصدح بالأذان، والصلوات لتملأ الأرواح بالسكينة، والطمأنينة.. ومع كل هذا فمازالت القلوب مفتوحة لاستقبال هذا الشهر الكريم في لحظة بداية رحلة عظيمة في عالم الوجود يشعر معها هؤلاء بالقوة الخفية الكامنة في دواخلهم، وبقدرتهم على التحمل، والصبر، والانكسار لإرادة الله، عندئذ يختلط النور بالظلام، ويتحول الجوع، والعطش إلى سلم تصعد به الأرواح إلى أعلى المراتب، وترتفع معها الدموع لتستمطر رحمةً من السماء تنزل على القلوب المتعبة فتمحو آثار الجروح العميقة.
* * *