الثورة _ هفاف ميهوب :
إن أردنا فهم معنى الزمن، علينا العمل بنصيحة الفيلسوف الألماني “شوبنهاور”: “علينا ألا نتوجّه نحو تجربة الفيزياء، وإنما نحو تجربة الملل”.
إنه التوجّه الذي رآه الفيلسوف الألماني “روديغر سافرانسكي” مرتبطاً بالأحداث، حيث شعور الإنسان بالملل، بسبب غياب أيّ اهتمام حيالها، ومن قِبَل الذات التي قد تكون بليدة وغير طموحة، أو الموضوع الذي يكون غير مثير واعتيادي.
رأى أيضاً، أن الزمن الذي تقلّ فيه كثافة هذه الحوادث، يبدو وكأنه متوار خلفها، وأننا ننتظره.. ننتظر العدم، اللاشيء، ليخرج من مخبئه.
هذا ما تناوله “سافرانسكي” في كتابه “الزمن.. ما يفعله بنا وما نصنعه منه”، وفي الفصل الأول “الزمن والملل”.. حيث شبّه انتظارنا للعدم، بانتظار بطليّ الكاتب والروائي الإيرلندي “صموئيل بيكت” لـ”غورو” الذي لا يظهر بأنه موجود أصلاً.
بيد أن الملل فعلاً، هو ما يُشعرالإنسان بالفراغ، وبأن الزمن يعيش فيه، مثلما يعيش هو أيضاً، في هذا الزمن العبثي.
هكذا يمضي الإنسان يومياً في العالم، والعالم يملؤه بالملل، ليمضي بعدها إلى “زمن البداية” حيث يرتبط مع الزمن.
هو فصلٌ آخر، يشير إلى متعة البداية في كلّ شيء، وإلى فرص التحوّل والتخلّص من كلّ الأشياء التي تشدّنا إلى الوراء.
إنها مغامرة، أكثر من يهتم بها الأدب، حيث يقفزالكاتب الذي يتصوّر أحداثاً يكتبها، خارج سلسلة الزمن، محاولاً تجربة حياة جديدة، كتلك التي قفزإليها الكاتب “كافكا” في روايته “القلعة” قائلاً: “حياتي هي تردّد نحو الولادة”.
نعم، هو زمن البداية والولادة، والذي قال عنه “سافرانسكي”: “زمن اللحظة المشرقة، لأن الفرد يشعر بارتباطه مع الزمن الذي يكتشف المرء فيه نفسه، فيمسك بالمبادرة تاركاً وراءه كلّ الوهم القديم”..
هو أيضاً، الزمن الذي لا يمكن له، ورغم تحرّره من محظورِ المجتمع، والقفز نحو حياة جديدة، مقاومة المسارالاجتماعي الذي يقوده إلى “زمنِ الهمّ”..
يتوقّف الكاتب لدى هذا الزمن، فيجد أن من الصعبِ التنبّؤ به لطالما، من الممكن أن يحدث فيه كلّ شيءٍ لأسبابٍ صادمة. ينتقل إلى “الزمن الاجتماعي”.. زمن مابعد الملل والبداية والهمّ.. “الزمن الذي يشلّنا حيناً، ويحفّزنا حيناً آخر، ثم يكدّرنا مرّة أخرى”.
لم يعد هذا الزمن، هو الزمن الذي نعيشه فقط، بل بات أيضاً، الزمن الذي عشناه ماضياً، وسنعيشه في المستقبل.
بات كذلك، وبتنا نشعر بأنه “الزمن المُدار”. حيث عجلة الحياة لا تتوقّف في الزمن الصناعي، الاستهلاكي، الإنتاجي.. الزمن الذي لا بدّ لكلّ من يقف لمجرّد مراقبته، من أن يخرج من دائرة العمل، بل ومن عجلةِ العالم الهائلة في دورانها.
بعد هذا الزمن، يأتي “زمن الحياة والعالم” الذي كان الفيلسوف الألماني “نيتشه” قد صاغ حياة إنسانه، بعمقٍ يرى: “في زاويةٍ ما من العالم المليء بأنظمة شمسية لاحصر لها، كان هناك جرمٌ سماوي ابتُكرت عليه حيوانات ذكيّة ودقيقة الإدراك، لقد كانت الدقيقة الأكثر غطرسة وخداعاً في تاريخ العالم، لكنها لم تكن سوى دقيقة، فبعد أن أخذت الطبيعة بضعة أنفاس قليلة، تجمّد الجرم السماوي، وكان على الحيوانات الذكية أن تموت”.
يدفعنا ذلك للاعتراف، بأننا مجرّد ذرّة ضئيلة، كائنات لحظية لكنها قادرة على أن تمضي في تفكيرها، إلى فتراتٍ زمنية ضخمة.. تمضي من “زمن العالم” إلى “الزمن الخاص”. زمن الذات، المليء بالتحولات والانقطاعات، بالخير والشرّ، وبالصور والأصوات، صور الأدب وأصوات الموسيقا، وغيرهم مما يمكّننا من “اللعب مع الزمن” الذي يتحكَم فينا، فلا نجد سبيلاً للتحايل عليه، إلا بلغتنا ومهاراتنا.
في الفصل الأخير: “الزمن المتحقّق والأبدية”، يقترح “سافرانسكي” علينا نسيان الزمن، وهو أمرٌ يرى أن من الصعب أن يتحقّق، إلا في حالة الحبّ أو الفنّ، فكلاهما يدفع الإنسان لنسيان ذاته فيهما، كي لايشعر بالتقادم الذي يفرضه الزمن الذي يسيل، حاملاً إياه معه إلى حيث التلاشي.
كلّ هذا وسواه، تناوله “سافرانسكي” في كتابٍ، لم يتحدث فيه عن الزمن من منظور تأمّلي أو علمي، وإنما من منظور الحياة.. لقد تناول ما يفعله الزمن بنا، وما نصنعه منه، وهو أمرٌ يجعل من الصعب علينا النظر إلى الزمن، إلا من خلال أنفسنا، وما ندركه بتجاربنا الشخصية، ويمكّننا من القبض على كلّ جديد في التجربة الزمنية.