الثورة _ هفاف ميهوب:
يا تُرى، هل يُقدم الأديب على الكتابة بسبب رفضه لواقعه، أو بؤسه ومعاناته الشخصية؟.. هل هو إلهامٌ يحرّضه، أم موهبة تدفعه لترجمة كلّ ما يعيشه، أو يشعر به، أو حتى يتخيّله، إلى نصوصٍ إبداعية؟.
تكثر الأسئلة، ووحدهم الكتّاب من بإمكانهم الإجابة عليها، وكلّ حسب سببه، حسب ظروفه وأهدافه، وقدرته على إقناع القارئ، بجمالِ وتميّز ما يكتبه.
بيد أن الأسباب تعدّدت لدى الروائي «حيدر حيدر»، الأديب الذي تمكّن من تحويل الأحاسيس التي كانت تتملّكه، إلى كلماتٍ لم يتوقّع أبداً، بأنها قد تصيرُ أدباً، أشار إلى أنه بدأ بكتابته:
«بدأتُ الكتابة كهواية، وكان ذلك مصادفة ونوعاً من التجربة والتسلية، كنت أفرّغ هواجسي على الورق، وقد بدأت بالخواطرِ والتأملات والانطباعات، كتمريناتٍ ذاتية وموضوعية»..
إذاً، الصدفة هي من قاد «حيدر» إلى كتابة الأدب الإبداعي، والهواجس هي التي طوّرتها، وكذلك القراءات التي دفعته لتأمّل نفسه ومحاكاتها، مثلما تأمّل ومحاكاة العالم الخارجي.
كلّ ذلك، أنضجته الظروف الاجتماعية والسياسية الصعبة التي واكبها، مثلما البيئة المضطربة والبائسة التي عاشها فكتبها..
إنها الأسباب ذاتها، التي دفعت أديب البحرِ «حنا مينه» للتفكير في الكتابة، ورغم شعوره بأنها: «الكتابة ليست سواراً من ذهب، بل هي أقرب طريقٍ إلى التعاسة الكاملة».
حتماً، هو لم يقصد بقوله هذا، بأن العوالم التي سعى غالبية مبدعيّ العالم لابتكارها بالكلمات، هي من يقوده إلى بؤسه وتعاسته، بل قصد بأن هذه المهنة التي افترست أعصابه، جعلته يعيش بقلقٍ سببه الأكبر، عدم توقّف دودة الفكر عن التنقّيب في دماغه..
إنه ما زاده قدّرة على تجسيد واقعه، بكلّ ما فيه من ألم وقهرٍ وفقرٍ وجهلٍ، وكفاحٍ ضد الاحتلال والظلم الإنساني.. زاده أيضاً، عشقاً للكتابة وإصراراً على متابعتها، ودون أن يتوقّع بأنها ستجعله، من أشهر كتّاب الأدب الروائي.
«لم أكن أتصوّر، حتى في الأربعين من عمري، أنني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت، كما هو معروفٌ عني، بالخطأ، ونشأتُ بالخطأ، وكتبتُ بالخطأ»..
هذا ما أعلنه «مينه» لكن، من يقرأه جيداً، يجد بأن الدافع الحقيقي لكتاباته، هو ما كان يحفظه من الكتب الكثيرة التي كان يقرأها، واعترف بأنها جعلت منه سندباداً يجوب كلّ البلدان، ليُغني الإبداع بتجربته.
نعم، لقد كانت الكتب الكثيرة التي قرأها، هي ما شجّعه على الكتابة.. ذلك أنه لم يكن يكتفِي، بقصّ حكاياها على زبائنه في محل الحلاقة الذي كان يعمل به، بل وأيضاً، بتدوين ملاحظاتٍ كانت تعتمل في رأسه، على دفتر حسابات هذا المحل، وهي الملاحظات التي صاغ منها أولى رواياته.. «المصابيح الزرق» التي يحكي فيها، عن حياة الناس البسطاء في الحرب، وعن القلق والمعاناة والفقر، وغير ذلك من انعكاسات هذه الحرب، التي قضت على حلم الإنسان وسعادته.